أسئلة غير ملحّة عن مستقبل غير قريب

2019.12.10 | 16:50 دمشق

images.jpg
+A
حجم الخط
-A

تطرح كثير من الحركات والأحزاب في بلداننا مسألة دين الدولة وعلمانيتها كشعارات تهدف من ورائها كسب جمهور الناس، ويرى البعض منها أنّه لا يمكن فصل الدين الإسلامي تحديداً عن الدولة، منطلقين من اعتبار أنّه دين ودنيا وأنّه صالح لكلّ زمان ومكان، وهذا يعني بالضرورة أنه صالح كنظام حكم سياسي، ويلخّص بعضهم هذا الأمر بشعار عامٍ اصطلح على اختصاره بمقولة (الإسلام هو الحل) ودون أن يقدّموا برنامجاً واضحاً يشرح هذا الشعار.

سنحاول في هذا المقال التطرّق للعلمانيّة باعتبارها – من وجهة نظرنا ونظر الكثيرين غيرنا - مفهوماً قادراً على حلّ إشكالية علاقة الدين بالسياسة وأنظمة الحكم.

العَلمانيّة بفتح العين من عالم وليس العِلمانية بكسرها من عِلم، أي التعامل الدنيوي لا الغيبي الديني مع الحياة وفق قوانينها الذاتية. أو بمعنى آخر هي فهم الظواهر وتفسيرها والتعامل معها كما هي وفق قوانينها وليس وفق قوانين الدين. فعندما أريد بناء منزل أذهب إلى المهندس ليخطط وينفّذ وليس إلى إمام المسجد أو الراهب ليناجي الله سائلاً بناءه.

يقول الدكتور عزمي بشارة في محاضرة له بعنوان "السياقات التاريخية لنشوء العلمانيّة" (استُخدمت العلمانية Secularism لوصف موقف أيديولوجي، فقط في نهايات القرن التاسع عشر من قبل المفكرين الأحرار وخاصّة جورج هوليوك، الذي استخدمها في موقفه الديني ليتميّز عن الإلحاد Atheism، وكان يرى أنّ هناك دينٌ طبيعي لكلّ البشر، المشترك فيه القيم الإنسانيّة الجامعة، وفي مركزه وحدانيّة الإله الذي يمثّل أيضاً وحدة العقل البشري، ويسمّي هذا الموقف نفسه الربوبيّة Deism، أي أنّ استخدام مصطلح العلمانية جاء للتميّز عن الإلحاد، وللقول بوجود شيء مختلف يدعو لتحييد الدولة في قضايا الدين، وأن يحكم الدولة العقل نفسه وليس العقائد الدينية).

مع ذلك فقد تطوّرت العلمانيّة – دون استخدام هذه التسمية - تاريخياً في أوروبا بعد الإصلاح الديني الذي قاده القسّ الألماني مارتن لوثر، وقد عبّر من خلال اعتراضه على صكوك الغفران برسالته الشهيرة المؤلفة من 95 نقطة، والتي نشرها عام 1517 عن رفض

تطوّرت العلمانية في إنكلترا مع رغبة الملك هنري الثامن باحتكار الولاء للتاج البريطاني وإلغاء مظاهر السلطة البابويّة في إنكلترا

سلطة البابا المطلقة في احتكار تأويل الدين وتفسيره، ونشر ترجمة الكتاب المقدّس باللغة الألمانية بعد أن كانت الكنيسة تمنع نشره بغير اللغة اللاتينية لتحصر قراءته بفئات محددة من رجال الدين والمتعلّمين فقط.

بعد ذلك تطوّرت العلمانية في إنكلترا مع رغبة الملك هنري الثامن باحتكار الولاء للتاج البريطاني وإلغاء مظاهر السلطة البابويّة في إنكلترا. لقد كانت العلمانيّة تعني في ذلك الوقت فرض سيطرة الدولة على الكنيسة، وكان الدافع الأساس وراء ذلك منع ازدواجيّة الولاء في البلد الواحد لسلطة سياسية داخلية ممثلة بالملك وسلطة دينية خارجية ممثّلة بالبابا. من هنا نشأت الكنيسة الأنجليكانية التي يرأسها الملك، وأُعلِن أنّ أسقف روما ليس لديه أيّة سلطات في الكنيسة والأرض الإنكليزية.

أمّا في فرنسا فتعود علاقة الكنيسة بالملوك إلى عهد الملك "بيبان القصير" الذي كان أول ملك أوروبي بعد شارلمان يعترف بسلطة البابا الزمنيّة، ومنذ ذلك الوقت امتزجت في فرنسا السلطات الزمنية والروحية، وكان ملوك فرنسا يحملون ألقاب ملوك المسيحية لحمايتهم سلطة البابا في روما المقدّسة. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية، ونتيجة لهذا الترابط الوثيق بين الكنيسة والدولة، كانت النقمة كبيرة على الكنيسة باعتبارها أحد أدوات تثبيت سيطرة الملك وحكم طبقة الإقطاعيين الأرستقراطيّة، وقد قامت قوّات الثورة الفرنسية بطرد البابا بيوس من الدولة البابويّة عام 1798 وبقي في المنفى حتى وفاته. من هنا نجد العلمانية الفرنسية صلبة، وتأخذ منحى يمكن وصفه بالمتشدد تجاه الدين أو بالأحرى تجاه دوره في الفضاء الاجتماعي العام.

ليست فرنسا الدولة الوحيدة التي توصف علمانيتها بالمتصلّبة، بل كان كذلك الاتحاد السوفيتي سابقاً الذي تبنّى في دستوره موقفاً معادياً للدين، وكذلك جمهورية الصين الشعبيّة، والدولة التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك بتناقض صارخ مع المجتمع التركي المتديّن. بينما لو نظرنا إلى العلمانية الأمريكية لوجدناها تفرض حياديّة الدولة تجاه جميع الأديان وتمنع على الدولة أن تتبنى عقيدة دينية محددة. وهذا كلّه رغم أنّ المجتمع الأمريكي أكثر تديناً من المجتمعات الغربية الأوروبية، ولا شكّ بأنّه كان لحرب الاستقلال عن الإمبراطوريّة البريطانية دور كبير في موقف الآباء المؤسسين من علاقة الدولة بالكنيسة، حيث كانت الأخيرة هناك رمزاً للتاج البريطاني كما أسلفنا.

بالنسبة للعالم العربي، كان الموقف متشنّجاً من العلمانيّة باعتبارها ارتبطت بشكل مباشر مع الاستعمار، وبسبب العلاقة مع الثقافة الغربية خاصّة في نموذجها الفرنسي، الذي أقصى الدين من الشأن العام واعتبره شأناً خاصّاً. وقد ووجه المصطلح بسلبيّة شديدة – حسب تعبير الدكتور عزمي - من قبل المفكرين الإسلاميين الذين كانوا يرون في ذلك الوقت أنّ التحديث يجب أن ينطلق من العودة إلى الإسلام النقي وأصوله بعد تخليصه من الشوائب والخرافات التي علقت به عبر القرون. وقد تلخّص ذلك في موقف جمال الدين الأفغاني الأكثر حدّة، والذي عبّر عنه في كتابه "الردّ على الدهرييّن" وخلط فيه بين العلمانيّة والإلحاد.

الدين ظاهرة اجتماعيّة لازمت البشر منذ وجودهم على هذا الكوكب، وقد عرفت البشريّة أدياناً كثيرة غير سماويّة كما عرفت الأديان التوحيديّة. وكل دين سماوي يتضمّن جانباً عقديّاً يهدف إلى تنظيم علاقة الإنسان بخالقه، كما يتضمّن جوانب عمليّة تستند إلى الأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة أو تناقضها، ويهدف هذا الجانب إلى تنظيم علاقة البشر بعضهم بالبعض الآخر.

لا يشذّ الإسلام عن هذه القاعدة، فهو كائن حيّ يتطوّر في جوانبه العمليّة ليتأقلم مع حاجات البشر عبر الأماكن والأزمان، وهذا من بدهيّات الحياة، فبدون التطوّر تنقرض الكائنات. لذلك علينا أن نقرأ حركات التطوّر المتتابعة في الفكر الديني من هذا المنظور. عندما نزلت رسالة الإسلام قبل 1400 عام على الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، لم تكن تعقيدات الحياة بهذا الشكل، فالعلوم الطبيعيّة مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والأحياء... والعلوم الاجتماعيّة مثل التاريخ والفلسفة وغيرها، كانت بسيطة لدرجة أنّ فرداً واحدا كان قادراً على استيعابها والإضافة عليها، بينما لدينا الآن من هذه العلوم ما نحتاج لأيام طوال لتعدادها وتعداد فروعها وتخصصاتها تعداداً فقط دون شرحها. هذا يعني ّأن ما كان يحتاجه الإنسان في علاقاته وتعاملاته سابقاً قد بات شيئاً بسيطاً جداً وقد يكون غير ذي قيمة مقارنة بما يحتاجه الآن. لذلك وجب أن يتطوّر فهم الدين ودوره بشكل مناسبٍ لتطوّر متطلّبات البشر، وإلّا دخل الدين في مرحلة القصور عن الإجابة على أسئلة الناس الملحّة.

إنّ مجال العقيدة بعيدٌ كلّ البعد عن العلم، فلا يمكن دحض المعتقدات الدينيّة أو إثباتها بواسطة العلوم الطبيعية أو الاجتماعية أو غيرها من العلوم، ببساطة لأنّ المجال الذي يعمل فيه الدين مختلف تماماً عن مجالات العلوم. لا يمكن أن نربط الإيمان بالله كلّي القدرة كامل الصفات بنتائج علميّة غير مستقرّة ولا نهائيّة، وإذا فعلنا ذلك نكون قد خرجنا من دائرة الإيمان إلى دائرة التصديق، والتصديق قابل للنقض عند تغيّر الفرضيات وبالتالي النتائج التي أدّت إليه. لا يمكننا مثلاً ربط تحريم لحم الخنزير بالنسبة للمسلمين بما يمكن أن تقودنا إليه دراسة علمية حول ضرره على صحّة الإنسان، فقد تأتي دراسة أخرى تنقض تلك، وهذا يعني ربط الإيمان المطلق بالعلم المتغيّر، وهذا خطأ بيّن. مجال الدين هو الإيمان المطلق لا مجرّد التصديق، فالتصديق قد يتزعزع عند ربطه بمتغيّرات قابلة للدحض، بينما الإيمان المطلق عصيّ على التشكيك والنقض.

يبحث العلم عن إجابات لأسئلة مثل: كيف وأين ومتى وإلى أين وإلى متى؟ لكنّ الدين يعطي إجابات محددة وقاطعة على أسئلة مثل: لماذا؟ العلم يبني الفرضيّات وينقضها، يبحث في الأسباب والنتائج، يشكّك ويثبت، يغيّر في المناهج والطرائق، يجرّب ويعيد التجريب، يستنبط ويستقرئ... بينما الدين يجيب على الأسئلة الكونيّة الكبرى مخاطباً إيمان الإنسان لا شكّه. إنّ مجال العلم هو الشكّ، بينما مجال الدين هو اليقين، وبين المجالين بون شاسع ومساحات عقليّة ومنطقيّة لا يمكن تقريبها.

من هنا فإنّ ربط الأديان بالمعجزات والخوارق، أي بما يعاكس قوانين الطبيعة لإثبات أنّها متأتية عن خالق عظيمٍ متعالٍ عن البشر، مقدّس وغير قابل للإدراك، هو أمر غير سليم أساساً. فربط المطلق بالنسبي والمقدّس بالدنيوي يؤدّى

عندما نتحدّث عن الدين كمعطى اجتماعي يحدد علاقة البشر بعضهم ببعض، وعندما يتمّ استخدامه في السياسة، فإننا مضطرّون للتعامل معه كموضوع اجتماعي قابل للأخذ والرد والإثبات والدحض والشك والتجريب

إلى مغالطة عقليّة ومنطقيّة وحتى إيمانيّة. فلا يمكن أن ألجأ إلى أدوات معرفيّة بشريّة لتحديد ماهيّة الكائن المطلق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد... هذا الأمر خارج إطار البحث العلمي. إمّا أن يؤمن المرء بالدين - أقصد هنا العقيدة - أو لا يؤمن، وبعدها – إن آمن - يمكن أن يمارس تديّنه بدون تعارض مع العلم ومتطلّباته.

أمّا عندما نتحدّث عن الدين كمعطى اجتماعي يحدد علاقة البشر بعضهم ببعض، وعندما يتمّ استخدامه في السياسة، فإننا مضطرّون للتعامل معه كموضوع اجتماعي قابل للأخذ والرد والإثبات والدحض والشك والتجريب. هنا نتعامل مع جوانبه العمليّة لا مع جانب العقيدة المطلقة.

 لقد استغلّت أنظمة الحكم الجمهوريّة العربيّة التي تدعي العلمانية هذا الشعار، لمحاربة الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية تحت عنوان الإسلام السياسي، ثم تحت شعار مكافحة الإرهاب الذي حصرته بالإرهاب الإسلامي. بينما قامت في الواقع باستغلال المؤسسات الدينية لتثبيت دعائم استبدادها، بدءاً من فترة الحكم الوطني ما بعد الاستقلال وحتى الآن. أكبر مثال على ذلك دور مشيخة الأزهر التي سمح بها جمال عبد الناصر، ودور معاهد الأسد لتحفيظ القرآن والقبيسيات وفكر مشايخ السلطان.

يستفيد المتدّينون من أنظمة الحكم التي تأخذ بفصل الدولة عن المؤسسات الدينية والتي يطلق عليها اختصاراً الدول العلمانية، أكثر ممّا يستفيدون من الدول الدينية، لأنها ببساطة تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان. ولنقارن بين الباكستان وإيران والسعودية كدول تصرّح عن كونها دينيّة إسلامية وبين ألمانيا وأميركا والنرويج كدول علمانية. في أيهما يستطيع المتدينون من جميع الأديان والملل والنحل ممارسة حرياتهم الدينية وعقائدهم وطقوسهم؟ الجواب واضح كما نعتقد.