أسئلة البدايات في الثورة السورية

2020.02.29 | 23:01 دمشق

thumbs_b_c_c58c00c3b0e23f3fcdd05d8e1fcaaad7.jpg
+A
حجم الخط
-A

في أشهر الثورة السورية الأولى، بعد أن زج نظام الطغيان جيشه السوري في حرب ضد شعبه السوري، قد بدا واضحاً لجميع السوريين: أن ما يقوم به جيشهم السوري وأجهزة السلطة الأمنية، أو مجموعات "الشبيحة" المرافقة والداعمة والمعززة له ولها، لا ينسجم مع هدف إخماد الثورة في المناطق الثائرة فقط. وكان السؤال الذي بدأ السوريون يسألون بعضهم بعضاً عنه بعد معرفة تفاصيل اقتحام الجيش وحواشيه لـ"درعا البلد"، ولـ "حي الرمل الجنوبي" في اللاذقية، هو: لماذا كانت قوات الجيش السوري، وقوات أجهزته الأمنية، تتعمد تخريب البيوت في الأحياء والقرى والبلدات التي تدخلها، وتجعلها غير قابلة للسكن؟

كان هذا النهج واضحاً ومتعمداً منذ الأشهر الأولى، ولم يكن التبرير بالفوضى التي ترافق الحرب عادة، أو بالضرورات العسكرية، تبريراً مقنعاً لأي أحد؛ لقد كان تخريب البيوت، ونهب محتوياتها، حتى تصبح العودة إليها والعيش فيها مستحيلاً من بين المستحيلات، يؤكد أن لابد أنه عمل منهجي متعمد، قد باشروا تطبيقه منذ الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية.

 إذاً، منذ البداية لم يكن تهجير السوريين من بيوتهم ومدنهم أمراً اضطرارياً، فرضته ضرورات المعارك ووقائع الحرب؛ لأن التهجير قد كان هدفاً، مخططاً له ومرغوباً فيه، هدف قد تتالت تهيئة مقدماته اللازمة، وجرى تمكين عوامل استدامته لجعله دائماً.

وعلى هذا يمكن القول: إن عمليات التهجير من بابا عمرو في حمص، قد كانت الأكثر وضوحاً، والمشغول عليها بتركيز أكبر وبتخطيط أدق، وأنها كانت البداية التي ستتوالى لاحقاً في أحياء المدينة كلها، وفي كل المناطق التي حوصرت ثم تم اقتحامها لاحقاً، في مناطق أخرى. ومع ذلك، في البداية لم يكن تحديد الجهة التي سينتقل المهجرون إليها مهماً؛ لقد كانت الخطة تتطلب- حينها- أن تفرغ المناطق تباعاً. 

لقد أفرغت حمص من سكانها "السنّة" بخطة منهجية، كان قد خططها، وأشرف عليها، وقادها قاسم سليماني الذي كان يدير معركة "نظام الحكم السوري" ضد الشعب السوري، ومنذ البداية كان قد خطط سليماني لتهجير دائم، ومنذ البداية كان قد تقصد الفظائع، وتعمد ارتكاب المجازر من دون أي حاجة عسكرية أو أمنية لها؛ كي يستحيل الرعب نفسه إلى قوة تهجير؛ تدفع الناس دفعاً إلى مغادرة بيوتهم وأراضيهم وبلدهم. وأيضاً منذ البداية، قد خطط، وكرس، وأراد تأسيس بنية عسكرية خاصة؛ لتكون أداة تنفيذ مشروعه الطائفي الإجرامي؛ فكانت كتائب الدفاع الوطني، كما شاء أن يسميها، لأنه قد كان يعرف جيداً: أن هذه المجازر البشعة التي تحمل تصنيفاً طائفياً، لابد تحتاج إلى بنية فاشية خاصة؛ كي تقدم على ارتكابها وإنجازها وحراستها.

منذ البداية لم يكن تهجير السوريين من بيوتهم ومدنهم أمراً اضطرارياً، فرضته ضرورات المعارك ووقائع الحرب؛ لأن التهجير قد كان هدفاً، مخططاً له ومرغوباً فيه

وفي المراحل التالية، وبعد أن ازدادت الأحياء والبلدات والقرى التي أرغم أهلها على مغادرتها، كان لابد من إعادة صياغة خطط التهجير وإستراتيجياتها؛ كي لا تترك بلا ضوابط، خصوصاً وأن القيادة الإيرانية -والسورية- التي تنسق المعركة ضد الشعب السوري، ظلت تريد، وترغب، من السوريين المهجرين مغادرة سوريا إلى أبعد ما يمكن وإلى أبد الآبدين، أو لجوئهم- إذا كان لابد من ذلك لحسابات واقعية- إلى مناطق حدودية مع دول مجاورة. لكن المهجرين السوريين الذين راحوا ينتقلون من تهجير إلى آخر داخل المدن السورية، ألزموا الوحش بتغيير خطته؛ ولهذا اختيرت محافظة إدلب؛ لتكون المنطقة التي يدفع إليها السوريون الذين لا يريدون مغادرة سوريا.

لم تكن مقولة المجتمع المتجانس التي أطلقها بشار الأسد محض مقولة عابرة. نعم، لقد كانت الخطة التي وضعها سليماني وبقية طاقمه الذي أدار الصراع بين الطغمة الحاكمة والشعب السوري، تقتضي التخلص من أكبر عدد ممكن من الشعب السوري الرافض لاستمرار حكم عائلة الأسد؛ أي الشعب الذي يوصم بتصنيف طائفي واحد، والذي ينبغي التخلص منه، سواء أكان بالقتل أم بالتهجير، حتى إن تطلبت عملية التخلص خسارة مناطق جغرافية من سوريا.

بناء على هذا، يمكننا أن نفسر، أو نفهم، لماذا تعمد النظام تخريب البيوت وجعلها غير قابلة للعيش، ولماذا كان يرتكب المجازر البشعة، ويتعمد توسيع انتشار تفاصيلها؛ كي لا يفكر أحد من المهجرين بالعودة إلى المناطق التي انتزع منها.

نعم، لقد فضل السوريون البقاء في مخيم الركبان بالغ السوء، الذي تكاد تكون الحياة فيه حكماً بالإعدام، على العودة إلى تحت سيطرة النظام، ونعم لقد بقي مئات آلاف السوريين في العراء تحت أشجار الزيتون، رغم البرودة الشديدة، وفي خيام رقيقة لا تحمي من برد ولا من حر ولا من خطر، ولم يفكروا أن يتجهوا إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام.

ولم يكن اعتباطاً من جوقة النظام نشرهم صور جثة "أحمد جفال"، الرجل الفقير المسن الذي يعمل في جمع النفايات البلاستيكية من شوارع معرة النعمان، والذي رفض بشدة الخروج من معرته عندما اقتربت قوات النظام منها، ولكن قوات الأسد قتلته، واحتلت جثته بعد أن احتلت المدينة، ومثلت بها.

إذاً، لماذا يحارب النظام بكل هذه الشراسة لاستعادة إدلب، كأنه لم يوافق مسبقاً بألّا تكون له، هل استفاقت فيه نخوته الوطنية، أم هل فكر أن بإمكانه تهجير جميع أهلها إلى تركيا، أو حصرهم بشريط حدودي ضيق، وبالتالي عودة المدن الفارغة إلى سيادته بعد أن هجّر أهلها، ومثّل بهم.

ألهذا يزج بشار الأسد- بمنتهى الحماقة- بما تبقى لديه من قوات في معركة لا تعنيه يافطتها الوطنية أبداً؛ لأن الوطن بالنسبة إليه: كرسي، ومكب نفايات أولاً وآخراً. وبالتالي: لا يعنيه عدد من سيقتل من قواته في هذه المعركة التي أسس هو لهزيمته بها؛ فهؤلاء الذين يتواصل تدفق نعوشهم من جبهات القتال إلى المناطق السورية، ليسوا أكثر من عبيد لا يستحقون أكثر من منحهم رتبة من سلم رتب يمنحها من خان وطنه وشعبه.

كل ما يريده بشار الأسد، ومن أمامه ومن خلفه الروس، بعد أن أزاحوا الإيرانيين من قيادة المعركة، هو أن يوسعوا مساحة سوريا التابعة لهم ما استطاعوا. أما السيادة والوطن والكرامة والشعب فهي ليست أكثر من مفردات يرشها بشار الأسد وعصابته فوق الدم المهدور؛ كي يتمكن الحمقى من مواصلة وهمهم.