أزمة المحافظين والأحزاب المحافظة: عن فوز ريشي سوناك

2022.10.24 | 20:32 دمشق

ريشي سوناك وصل إلى رأس السلطة التنفيذية في بريطانيا (الأناضول)
+A
حجم الخط
-A

كما كان متوقعا، أعلن اليوم عن انتخاب ريشي سوناك Rishi Sunak لمنصب رئيس الوزراء في المملكة المتحدة بعد انسحاب منافسته بيني موردنت Penny Mordaunt من السباق على رئاسة حزب المحافظين. ومن المتوقع أيضاً أن يستمر سوناك الذي عمل سابقا وزيرا للخزانة 2020-2022، في منصبه لمدة عامين قبل انعقاد الانتخابات النيابة العامة ما لم تحدث مفاجآت تجعل خيار الانتخابات المبكرة أمر حتميا. انتخاب ريشي سوناك، وهو من أصول هندية كما يعرف الجميع، يقدم مثالا إجرائيا على أزمات الديمقراطية الليبرالية وقدرتها في ذات الوقت على إنقاذ وتجديد نفسها.

 للوهلة الأولى، وفي بلد يعيش على التاريخ ويضج بروايات تفوّقه ومساهماته الحضارية، يعكس نموذج سوناك نجاحا شكليا في صهر الدماء وإدماج الأعراق والإثنيات ضمن النظام السياسي بشكل يسمح، ولو بالمصادفة، بوصولهم إلى قمة الهرم السياسي في البلاد. لكن التعميم السابق يواجه صعوبات بالطبع بالنظر إلى الطبقة الاجتماعية الغنية التي ينتمي إليها وكذلك محطات مساره السياسي حيث إن اندماجه في النخب الحاكمة رافقه تبنٍّ واستسلامٌ واضح من قبل سوناك وكثير من أقرانه ذوي الأصول المهاجرة لسردية التفوق البيضاء "white supremacy" ومواقفها الحادة تجاه الهجرة والمهاجرين وخوفهم الشعبوي من تغلغلهم واستيلائهم على المجتمع. وبتفصيل أكبر، لمع نجم سوناك في المشهد السياسي البريطاني خلال فترة بوريس جونسون الذي نجح في تحقيق انتصار انتخابي كاسح لحزب المحافظين بالاستناد إلى مزايدات سياسية شعبويّة في مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "Brexit" الذي قدم للناخبين بوصفه الحل السحري لقضايا الاقتصاد، والمهاجرين، ومسائل الهوية التي يتجنب السياسيون التقليديون الخوض بها.

 

في بلد يعيش على التاريخ ويضج بروايات تفوّقه ومساهماته الحضارية، يعكس نموذج سوناك نجاحا شكليا في صهر الدماء وإدماج الأعراق والإثنيات ضمن النظام السياسي بشكل يسمح، ولو بالمصادفة، بوصولهم إلى قمة الهرم السياسي في البلاد

 

وبغض النظر عن فجاجة مواقفه من مسألة الهجرة والمهاجرين، يحظى سوناك بإعجاب شريحة كبيرة من البريطانيين بما فيهم خصومه الحزبيون والسياسيون نتيجة نهجه المالي والاقتصادي خلال سنوات انتشار وباء كوفيد 19، حيث أقر حزم مساعدات متنوعة شملت تغطية 80٪ من الدخل الشهري للعاملين والشركات خلال وجودهم في المنازل، وهو ما منع ركوداً اقتصادياً متوقعاً وسهّل بدء عملية التعافي الاقتصادي قبل اندلاع الحرب الأوكرانية. المفارقة أن نهج سوناك جاء مخالفا تماما لسياسات حزبه التقليدية التي تقوم عادة على تجنب الإنفاق الحكومي في القطاعات غير الربحية مثل التعليم، والصحة، والشرطة إلى درجه ذهب بعضهم إلى القول إن ما قام به سوناك يتجاوز البرنامج الحمائي/ التدخلي لرئيس حزب العمال السابق جيرمي كوربن والذي خسر الانتخابات السابقة على أساسه.

ومع أن شعبية سوناك لعبت دورا أساسيا في التغيير الحكومي، حيث كانت استقالته كحجر الدمينو الأول الذي فتح الباب لاستقالات مشابهة لم تتوقف قبل خروج بوريس جونسون العنيد  من رئاسة الوزراء، فإنها لم تشفع له عند أعضاء حزب المحافظين. لقد بينت نتائج الانتخابات الحزبية الأخيرة أن الرأي العام البريطاني، ولا سيما من المحافظين، ليس جاهزا لقبول رئيس وزراء من أصول مهاجرة رغم إعجابهم بأدائه.

أكثر من ذلك، فضلوا عوضا عنه Liz Truss ليزا تراس لكونها بيضاء فقط رغم قلة خبرتها وخطورة برنامجها الاقتصادي الذي حذر من تداعياته الجميع بما فيهم سوناك ذاته، حيث ساق توقعات تتطابق مع ما شهدته بريطانيا في الأسابيع الماضية من اضطراب اقتصادي قاد إلى تدخل البنك المركزي بخطوات تتناقض مع برنامج تراس بما يتعلق بسندات الخزانة، والدين، وحماية رواتب المتقاعدين، ما مهد الطريق لتنحٍّ مبكر أعاد حظوظ سوناك مجددا بوصفه الخِيار الأكثر واقعية لإنقاذ الحزب والحفاظ على وحدته في المرحلة الراهنة على الأقل.

تلقي التجربة البريطانية الضوء على الأزمات المختلفة التي تواجهها الديمقراطية الليبرالية مؤخرا ولاسيما مع الموجة العالمية الشعبوية المترافقة مع ركود اقتصادي عالمي وحروب مختلفة تروج لفكرة الانعزالية عوضا عن نهج الاعتماد المتبادل الذي وسم تفاعلات النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة. وتكمن المشكلة الأبرز في ترهل أداء الأحزاب السياسية في التعامل مع مستجدات العصر، وظروفه، وقيمه. فعلى سبيل المثال، تسود قناعة عامة لدى المحافظين أن نجاحهم سياسيا ينبع من أن برامجهم الانتخابية تعكس واقع البلاد كما هي لا كما يجب أن يكون والتي تختصرها الجملة الآتية التي تتكرر على ألسنتهم يوميا "Tories must learn to love the country as it is, not as they would like it to be" متجاهلين حقيقة أن الحزب السياسي في الأنظمة الديمقراطية منوط به وظيفة توعوية للحفاظ على القيم الديمقراطية من الأيديولوجيات الشمولية التي تواجهها كما جرى مع الفاشية، والنازية، والشمولية.

 

تلقي التجربة البريطانية الضوء على الأزمات المختلفة التي تواجهها الديمقراطية الليبرالية مؤخرا ولاسيما مع الموجة العالمية الشعبوية المترافقة مع ركود اقتصادي عالمي وحروب مختلفة تروج لفكرة الانعزالية عوضا عن نهج الاعتماد المتبادل

 

 أضف إلى ذلك، قامت الديمقراطيات الغربية على فكرة "التمثيلية" التي تربط الديمقراطية واستمراريتها بوجود النخب السياسية  الديمقراطية  وفقا للقاعدة الثابتة "No democracy without democrats". بمعنى آخر، يميل عموم الجمهور ولاسيما في فترات الأزمات الاقتصادية، النزاعات، الصراعات الدولية إلى الانزياح نحو خيارات انغلاقيّة وغير ديمقراطية. في ضوء ذلك، قد يكون لجوء الحزب إلى استفتاء العموم بمختلف القضايا عبر وسائل التصديق الانتخابية وبالاً عليه كما جرى مع المحافظين خلال العقد الأخير. لذلك من غير المستغرب أن تنص العديد من أدبيات التحول الديمقراطي على أن اللجوء للانتخابات أو الاستفتاءات خلال المراحل الانتقالية أو الأزمات قد يكون مضرا بالديمقراطية حتى لو اعتمد وسائل ديمقراطية لكون الديمقراطية تتطلب إجماعا بين النخب على مبادئ عامة والاستفتاء شعبيا على برامج تطبيقها لا العكس.

وأخيرا، ثمة نماذج لأحزاب محافظة ديمقراطية في عدد من الدول الإسلامية باتت تتشابه جزئيا مع تجربة حزب المحافظين لجهة تغليب الانغلاق وعداء المهاجرين واللاجئين، واعتماد خطط اقتصادية انعزالية، والانفتاح على أنظمة قمعية مجرمة بمبرر وجود قطاعات شعبية تدعم ذلك. لقد أثبتت الأيام فشل هذه التجربة وخطورتها ليس على الدولة والمجتمع فقط، بل على الحزب ذاته لجهة استنفاد رصيده القيمي ونموذجه الذي أهله ويؤهله للحكم الرشيد. لا يفهم من الكلام السابق انحياز للنماذج المقابلة أي الأحزاب التقدمية ولا سيما اليسارية منها التي تعيش هي الأخرى في أزمة عميقة أيضا تعزلها عن الجمهور وتجعلها أقرب إلى نوادٍ نخبوية مغلقة ببرامج تفتقد الواقعية السياسية والتأثير بالشارع. ولا نبالغ بالقول إن نجاحات الأحزاب اليمنية لا تعكس بالضرورة انزياحا شعبيا نحو برامجها بمقدار فشل الأحزاب المنافسة في تقديم برامج ونماذج جاذبة.