icon
التغطية الحية

"أريدُ لأولادي الهجرة".. شهاداتٌ لسوريين مسيحيين عن الخوف والحيرة

2025.09.04 | 06:07 دمشق

Getty Images
مسيحيون سوريون يرفعون الصلبان في أثناء تجمعهم في منطقة الدويلة بدمشق في 24 كانون الأول/ديسمبر 2024 ـ (Getty Images)
تلفزيون سوريا ـ جولي بيطار
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- منذ العصور الأولى، استقر المسيحيون في سوريا وواجهوا تحديات مثل الطوشة الكبيرة في دمشق عام 1860، مما أثر على شعورهم بالأمن وأظهر هشاشة التعايش.
- خلال حكم بشار الأسد، استغل النظام صورة "حامي الأقليات" للتلاعب بالمسيحيين، مما أدى إلى تقييد حريتهم ودفعهم لدعم النظام مقابل الأمان، مع استهداف 61% من أماكن العبادة المسيحية.
- بعد سقوط نظام الأسد، تصاعدت التحديات أمام المسيحيين، مثل الاعتداءات الطائفية، مما دفع الكثير من الشباب للتفكير في الهجرة بحثًا عن الأمان.

منذ العصور الأولى للمسيحية، استقر المسيحيون على أرض سوريا، في مدن وقرى عبرت عن جذورهم العميقة، ليكونوا جزءا من النسيج الاجتماعي المحلي. وعلى الرغم من صغر حجمهم نسبيًا، فإنهم تعايشوا مع سكان البلاد من مختلف الطوائف، محافظين على وجودهم وسط التحديات السياسية والأزمات عبر التاريخ الطويل.

مع بداية القرن العشرين، شهدت سوريا موجات من الهجرة المسيحية إلى الخارج، خاصة إلى فرنسا والولايات المتحدة، نتيجة للاضطرابات السياسية والاجتماعية، بحثًا عن الأمن والاستقرار، ما يعكس الجانب الإجباري من قرارات الهجرة في ظل الأزمات المتكررة. من أبرز هذه التحديات كانت الطوشة الكبيرة في دمشق عام 1860، التي اندلعت بعد تصاعد التوترات الطائفية في جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين المارونيين حول السلطة المحلية والضرائب والمصالح الاقتصادية، وانتقلت هذه النزاعات إلى العاصمة السورية.

بدأت الأحداث بهجمات على الأحياء المسيحية مثل باب توما وحارات القيمرية، حيث نفذ مجموعات مسلحة أعمال عنف منظمة ضد المنازل والكنائس، وفي ظل غياب الردع الفوري من السلطات المحلية أو المجتمع الدولي. استمرت هذه الأعمال من 9 إلى 17 من تموز/يوليو، وأدت إلى مقتل نحو خمسة آلاف مسيحي، وإحراق أكثر من 1500 منزل، وتدمير العديد من الكنائس، بينما لعب الأمير عبد القادر الجزائري دورا حاسما في حماية الأحياء المسيحية وإنقاذ آلاف الأرواح. اضطر آلاف الدمشقيين للنزوح إلى بيروت والأراضي المصرية، في حين تركت هذه الأحداث أثرًا طويل الأمد على شعور المسيحيين بالأمن على أرضهم، وأظهرت هشاشة التعايش إذا لم يدعمه القانون، في مواجهة التوترات الطائفية والسياسية والطبقية، مؤذنة بضرورة وجود فهم أعمق لطبيعة التحديات التي واجهها المجتمع المسيحي في سوريا عبر القرون.

المسيحيون رهينة لدى "حامي الأقليات"

خلال فترة حكم رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، سعى النظام إلى تصوير نفسه كحامٍ للأقليات في سوريا، بما في ذلك المسيحيون، مُستغلًا هذه الصورة في علاقاته مع القوى الغربية. إلا أن هذا التوصيف لم يكن يعكس الواقع بشكل كامل وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "ميدل إيست آي"، عبّر بعض المسيحيين السوريين عن شعورهم بأن النظام "أخذهم كرهائن"، حيث كانوا يُجبرون على دعم النظام مقابل "حمايتهم". هذا التلاعب السياسي انعكس بقوة على حرية التعبير والنشاط المدني لدى المسيحيين، فوضعهم أمام معادلة صعبة: إما الوقوف إلى جانب النظام لضمان حدٍّ من الأمان والبقاء، أو معارضته وتحمل مخاطر الاعتقال والإخفاء وما يرافقهما من تهديد وجودي.

عام 2019، قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها إنَّ نظام الأسد هو المسؤول الرئيسي بنسبة 61 بالمئة عن استهداف أماكن العبادة المسيحية في سوريا.

وتحت عنوان “استهداف أماكن العبادة المسيحية في سوريا تهديد للتراث العالمي” ذكر التقرير أن استهداف أماكن العبادة المسيحية يعتبر شكلاً من أشكال تخويف وتهجير المسيحيين في سوريا.

ويعود تاريخ بناء بعض أماكن العبادة المسيحية في سوريا إلى القرن الأول الميلادي ككنيسة أم الزنار في مدينة حمص، وكنيسة قلب اللوزة في ريف إدلب التي يعود بناؤها إلى القرن الخامس الميلادي، وكان المهم دائماً بالنسبة لحكم بشار الأسد هو البقاء في حكم سوريا، والادعاء بحماية الشعب السوري والابتعاد عن ممارسة الطائفية، أما الواقع والأدلة بحسب التقرير فتُشير إلى استخدام وترسيخ الطائفية ومحاربة وتهديد الأقلية والأكثرية التي عارضت ممارسات الاستبداد وتوارث السلطة والاحتفاظ بها إلى الأبد.

وحمّل التقرير النظام المسؤولية المباشرة عما حلَّ “بالدولة السورية” من تدمير وتهجير وانهيار على مختلف المستويات؛ ذلك لأنه المتسبِّب الرئيس في استخدام مؤسسات الدولة السورية في شنِّ حرب منهجية ضدَّ الحراك الشعبي الذي طالب بإسقاط حكم عائلة الأسد والانتقال نحو نظام منتخب بشكل ديمقراطي يمثِّل مكونات الشعب السوري كافة.

وسجل التقرير ما لا يقل عن 124 حادثة اعتداء على أماكن عبادة مسيحية من قبل الجهات الرئيسة الفاعلة في سوريا، منذ آذار 2011 وحتى أيلول 2019، 75 منها على يد قوات النظام، و10 على يد تنظيم الدولة، في حين كانت هيئة تحرير الشام مسؤولة مسؤولة عن هجومين اثنين، ووفقاً للتقرير فإنَّ 33 حادثة كانت على يد فصائل في المعارضة المسلحة، و4 حوادث كانت على يد جهات أخرى.

وذكر التقرير أنَّ حوادث الاعتداء قد تسبَّبت في تضرُّر ما لا يقل عن 76 من أماكن العبادة المسيحية، ستة منها تعرضت لاعتداءات على يد أكثر من طرف.

ووفق التقرير فإنَّ حصيلة حوادث الاعتداء على أماكن العبادة المسيحية تتضمن 11 مكان عبادة مسيحي تم تحويلها إلى مقرات عسكرية أو إدارية من قبل أطراف النزاع الرئيسة الفاعلة 6 منها على يد النظام واثنان على يد كل من تنظيم الدولة وفصائل في المعارضة المسلحة وواحد على يد هيئة تحرير الشام.

وبحسب تصريحات سابقة للأب إبراهيم فلتس، نائب "حارس الأراضي المقدسة" عن هجرة المسيحيين عقب لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، فإن "الكثيرين هاجروا منذ بداية الحرب (التي شنها نظام بشار الأسد على الثورة) قبل 14 عاماً، ففي حلب وحدها كان عدد المسيحيين قبل الحرب 300 ألف مسيحي والآن لا يزيد عن 20 ألفاً".

تفجير كنيسة "مار إلياس" وتحديات جديدة

بعد سقوط نظام الأسد في 8 من كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية معقدة، حيث تصاعدت التحديات أمام المسيحيين، الذين أصبحوا عرضة لانتهاكات طائفية ومخاطر أمنية. في مناطق مثل القامشلي، بعد سقوط نظام الأسد بعشرة أيام تعرضت كنيسة مار يعقوب النصيبيني التابعة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية لاعتداء من قبل جماعات مجهولة، حيث تم العبث بمحتويات المكان وتكسير أثاثه وفي نفس اليوم، تعرضت مطرانية الروم الأرثوذكس في مدينة حماة لإطلاق نار من قبل مسلحين مجهولين، مما أدى إلى أضرار مادية بسيطة في بناء الكنيسة، إضافة إلى حالة هلع بين الأهالي.

هذه الاعتداءات تأتي في سياق أوسع من التوترات الأمنية التي تشهدها مناطق مختلفة في سوريا، مما يثير القلق بشأن مستقبل المسيحيين في البلاد.

في حمص، رغم استمرار الحياة الطبيعية في الكنائس، عبر بعض المسيحيين عن قلقهم من المستقبل، مشيرين إلى تغييرات ثقافية واجتماعية قد تؤثر على وضعهم.

جورج (اسم وهمي) خريج جامعي جديد، يروي لموقع تلفزيون وسريا مخاوفه عن المستقبل قائلاً إن أكبر ما يقلق بعض العائلات المسيحية اليوم هو التطرف الديني والاعتداءات المحتملة، كما حصل مع بعض الأقليات الأخرى في سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية (في إشارة إلى أحداث الساحل والسويداء). ويضيف: "أنا أفكر جدياً بالهجرة، لأنها أصبحت خياري الأول، خصوصاً مع انتشار السلاح غير المنضبط في المدينة والتجاوزات والأعمال الانتقامية التي تحدث بشكل متكرر إذا لم نقل بشكل يومي". وتعكس شهادته شعورا الكثير من الشباب المسيحي في حمص بالانكفاء على الذات والبحث عن الأمان خارج البلاد، وسط واقع يتسم بعدم الاستقرار والتوترات الاجتماعية المتزايدة.

أما ويليم وهو طبيب في مدينة حمص يقول لموقع تلفزيون سوريا: "بعد سقوط النظام شعرنا بفرح كبير، لكن سرعان ما تبدّل هذا الفرح بخوف من السلطة الجديدة ومن تصرفات فردية متطرفة في غياب الرادع الأمني". وتابع "زاد القلق مع الأخبار المتداولة على مواقع التواصل عن تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق وحرق شجرة الميلاد في السقيلبية، لكن أكثر ما هزّنا كان إطلاق النار على كنيسة أم الزنار في حي الحميدية بحمص".

هذه المخاوف لم تكن مجرد رد فعل عابر، بل أصبحت جزءا من الحياة اليومية للمسيحيين في حمص، حيث يختلط القلق على الحاضر بالخوف من مستقبل مجهول.

منصب بلا كفاءة و"ملابس تحت الوصاية"

تقول منى (اسم وهمي) 41 سنة وهي مهندسة تعمل في قطاع الاتصالات بدمشق إن التغييرات التي شهدتها مؤسستها بعد سقوط النظام لم تقتصر على إعادة هيكلة المناصب، بل طالت تفاصيل الحياة اليومية للموظفين. فبحسب شهادتها، جرى استبدال بعض المسؤولين بآخرين "من دون أي مراعاة لمعيار الكفاءة"، إذ تسلّم مناصب حساسة أشخاص لا يملكون أي مؤهلات علمية، حتى أن أحدهم لا يحمل سوى شهادة التعليم الأساسي. تضيف المهندسة أن هذا الأمر خلق شعورًا بعدم العدالة داخل الدائرة، وأضعف ثقة الموظفين بآلية توزيع المسؤوليات.

أما المفاجأة الثانية، كما تصفها، فكانت وصول تعميم شفهي يطلب من الموظفات تخفيف المكياج والالتزام بـ "اللباس المحتشم". تقول: "نحن في الأصل نرتدي ألبسة رسمية محتشمة، وغالبًا لا نضع المكياج إلا بشكل بسيط جدًا، لكن هذه كانت المرة الأولى التي نشعر فيها بأن هناك من يتدخل مباشرة في حريتنا الشخصية ومظهرنا". بالنسبة لها ولزميلاتها، لم يكن الاعتراض على مبدأ الاحتشام، بل على فكرة أن تُفرض هذه التوجيهات بطريقة تمس استقلالية المرأة وحقها في اختيار مظهرها.

هذه الشهادة تكشف أن المرحلة الانتقالية، وإن أنهت سطوة النظام السابق، لم تضع حدًا لثقافة الوصاية أو نزعات الثأر، بل أعادت إنتاجها بأشكال مختلفة، ما قد يجعل مكان العمل مرآة للتوترات العميقة التي تعيشها البلاد.

أما بالنسبة للكفاءة والفساد، وبحسب تقرير صادر عن المركز العربي في واشنطن (Arab Center DC)، فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية بعد سقوط النظام تواجه عدة عقبات رئيسية؛ منها إرث السلطة العائلية التي همّشت المؤسسات المدنية، ومحدودية الكفاءات الإدارية لدى السلطات الجديدة.

ويؤكد التقرير أن العامل الأخير هو الأخطر، إذ يبرز عجز واضح في تأهيل كوادر قادرة على إدارة المرافق العامة بكفاءة، ما يفتح الباب أمام استمرار الفوضى وضعف الأداء.

كما يوصي التقرير بضرورة الاستثمار في تدريب الكوادر الوطنية، وبناء مؤسسات مدنية مستقلة تقوم على التخصص والشفافية والمساءلة، باعتبارها المدخل الأساسي لإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع ومنع عودة أنماط الفساد والشللية.

بين مصياف ودمشق.. تجارة مُقيَّدة بحواجز

يروي وليد (اسم وهمي) 45 سنة من ريف مصياف، يقسّم حياته بين بلدته الصغيرة والعاصمة دمشق حيث يستقر، كيف انعكست المرحلة الانتقالية على تفاصيل عمله. فمنذ سنوات كان يصنع كميات محدودة من العرق والنبيذ في ريف مصياف، مستندًا إلى تقليد عائلي قديم، ثم ينقلها إلى دمشق ليبيعها كمورد إضافي إلى جانب عمله الأساسي. لم يكن هذا النشاط يمثل مصدر دخله الرئيسي، لكنه كان يساهم في تأمين احتياجات أسرته وتحسين وضعه الاقتصادي.

اليوم، يروي وليد أن الأحاديث التي تتكرر على ألسنة معارفه عن تفتيش الحواجز ومصادرة أي كميات من الكحول دفعت به إلى التوقف عن الإنتاج هذا العام. ورغم أن هذا العمل هو شائع جدًا بين مسيحيي المنطقة ورغم أن القوانين السورية لا تمنع تصنيع الكحول أو نقله، إلا أن الواقع الأمني الجديد فرض قيودًا غير مكتوبة جعلت هذه المهنة محفوفة بالمخاطر. يقول: "إن القرار بالتوقف لم يكن سهلاً، فهو يعني خسارة مورد داعم اعتدت الاعتماد عليه في مواسم معينة، لكنه بدا الخيار الأكثر أمانًا في ظل الظروف الراهنة".

هذه الشهادة الفردية تعكس كيف يمكن لإجراءات غير رسمية، لم تُعلن كقوانين، أن تؤثر على حياة الناس ومصادر دخلهم، وتعيد رسم ملامح الاقتصاد المحلي في مناطق المسيحيين.

بين الحذر والأمل.. مستقبل المسيحيين في سوريا بعد المرحلة الانتقالية

بعد سقوط النظام، يعيش السوريون المسيحيون مرحلة انتقالية مليئة بالغموض والتحديات اليومية. بين مخاوف من قيود على الحريات الشخصية، والتدخل في الملبس والمظهر، والتوترات الطائفية، يشعر الكثيرون بالقلق على حياتهم ومستقبل عائلاتهم. الشباب المسيحي، كما تظهر شهاداتهم، يفكرون جدياً بالهجرة بحثًا عن الأمان والفرص، بينما يحاول الكبار التمسك بجذورهم والحفاظ على استقرار مجتمعهم.

تروي السيدة أم نزار 69 سنة وهي من إحدى قرى مصياف: "في قريتي، لا أشعر بأي تضييق على المسيحيين، حياتنا هنا هادئة وآمنة". لكن رغم شعورها بالطمأنينة، لا تخفي قلقها على أولادها وأحفادها الذين يعيشون في المدن، حيث التوترات أكثر وضوحًا والمخاطر أكبر. وتضيف بلهفة: "أتمنى من كل قلبي لو استطاعوا الهجرة، لأني أريد لهم حياة أكثر أمانًا ومستقبلًا أفضل، بعيدًا عن الخوف الذي يحيط بهم يوميًا". شهادتها تلخص التناقض الذي يعيشه المجتمع المسيحي اليوم: أمان نسبي مقابل قلق متزايد، بين الحفاظ على الجذور والرغبة في الحماية للأجيال القادمة.

وكان الكاتب والباحث السوري نجيب جورج عوض قد عبر في معرض الحديث عن التحديات التي تواجه المسيحيين اليوم في سوريا؛ عن قلقه من انخفاض نسبة المسيحيين في البلاد نتيجة للحرب والأحداث الأخيرة، واصفاً الوجود المسيحي الحالي في سوريا بأنه بات "في مهب الريح". وأبدى خشيته في لقاء على تلفزيون سوريا من أن يتلاشى الوجود المسيحي في سوريا خلال العقود القادمة إذا لم تتحسن الأوضاع بشكل جذري.

ورغم هذه المخاوف، يبقى هناك بصيص من الأمل في قصص الأفراد الذين يواصلون حياتهم ويحاولون الحفاظ على مجتمعهم ونسيجه الاجتماعي. لكن السؤال يبقى مفتوحا: هل سيتمكن المجتمع المسيحي في سوريا من الصمود والحفاظ على وجوده وحقوقه، أم أن الأحداث في سوريا ستدفعه نحو الهجرة والابتعاد عن جذوره التاريخية؟