أرسكين كالدويل: كيف أصبحت روائياً؟

2019.12.26 | 17:09 دمشق

18300144._uy630_sr1200630_.jpg
+A
حجم الخط
-A

قرأت كتاب أرسكين كالدويل بعنوان "اسمها تجربة". توقعتها سيرة ذاتية، لكنها كانت أقرب لمذكرات أرسكين مع الكتابة وهمومها. الكتاب يعرض خبرات أرسكين حول مهنة الكتابة "أرض العجائب والخيال" كما يطلق عليها، لذلك لا نرى استعراضاً للأحداث التي مرت في حياته بالتفصيل، بل يروي التجارب التي ربما تكون قد أسهمت في مشروعه الروائي. لا تجد في الكتاب حديثاً عن مراحل حياته إلا ما يتعلق بالكتابة والنشر والسهر على كتابة القصص القصيرة والروايات. يندر الحديث عن الحياة العاطفية للكاتب أو عن الحب في حياته، ولا ترى ظلال الحياة السياسية أو صراعات الحكم والسياسة، بل الصراع من أجل الكتابة والنشر.

يكثر حديثه عن ذلك القلق، قلق الكتابة وهمومها، ومعاناة الحصول على فكرة وتطويرها كنص روائي، الكتاب تجري أحداثه في أمريكا منذ مائة عام تقريباً. تغير الكثير: من سوق النشر إلى أذواق القراء، لكن كل من يحترف الكتابة يعرف شعور معايشة النمرة -والتعبير لجبرا إبراهيم جبرا-. يعصر أرسكين ذهنة ليتذكر ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يكون كاتباً، أو متى شعر أن مهنته ستكون الكتابة. لا يتذكر كاتبنا نقطة التحول التي دفعته للتعلق بالكتابة، لكنه يؤكد أن رحلته في كتابة القصص والروايات لم تكن أمراً هيناً يقوم به بسهولة ويسر، فلقد أتعبته تلك المهنة وأشعرته بالقلق المستمر. كتابة القصة عناد لمزاج المرء وميله الفطري في الانطلاق. يحكي لنا عن حالة الضيق والتوتر والنكد طيلة النهار أو الليل، وهو جالس أمام الآلة الكاتبة، ليبتكر قصة أو يكمل فصلاً في رواية، وفي الوقت نفسه يرغب بالخروج من المنزل ليفعل أشياء أخرى أكثر إمتاعاً وإثارة من الكتابة.

بدأ أرسكين كالدويل حياته في العمل مراسلاً صحفياً، إلى أن أسدى إليه أحد المحررين نصيحة عندما كان يراجع مقالاته: "عد إلى مدينتك واكتب عما يحدث أمام ناظريك، وحول مشاهداتك إلى حدث مثير، المهم هي الطريقة التي ترى فيها الحدث وتكتب عنه"، في صيف 1919 أكمل العمل في مهن متنوعة أحيانا صحفياً وأحيانا عاملاً على سطح سفينة شحن، وباع اللبن وعمل في محل عصير برتقال وفي مخزن زجاج وفخار، المهم ما يجد به قوت يومه وأن يجد فرصة للكتابة. وفي تلك الفترة أكمل سنوات الجامعة وزادت رغبته في أن يكتب عن الناس الذين عرفهم في الواقع، وكما عاشوا، وتحركوا، وتكلموا فعلاً.

بدأ أرسكين كالدويل حياته في العمل مراسلاً صحفياً، إلى أن أسدى إليه أحد المحررين نصيحة عندما كان يراجع مقالاته: "عد إلى مدينتك واكتب عما يحدث أمام ناظريك، وحول مشاهداتك إلى حدث مثير، المهم هي الطريقة التي ترى فيها الحدث وتكتب عنه"

في فترة بداياته كصحفي مبتدئ لم يقتنع رئيس التحرير بأن كثرة القراءة مفيدة له: "أنا أريد مراسلا صحفيا لا عُثَّة كتب" هكذا صاح فيه رئيس التحرير، وطلب منه أن يكتب عن الجرائم في المدينة التي يعيش فيها. ولمدة عام كان يقوم بالاتصال بالمشرحة المحلية يومياً وكتابة عمود نعي للراحلين، فضلاً عن الذهاب إلى بعض الفنادق الرخيصة واكتشاف كيف توفي أحد الأشخاص داخله. في هذة التجربة تعرف على أيام الإثنين السوداء، حيث ينتحر بعض الفقراء في صباح يوم الإثنين بعد أن يستيقظوا ويتذكروا أنهم لا يملكون شروى نقير بعد أن بددوا ما كسبوه من أجر طيلة الأسبوع الفائت، ويقرر ذلك الفقير الانتحار. عاد أرسكين للصحيفة وكتب قصة عاطفية يتخيل فيها انتحار أحد هؤلاء الأشخاص، لم يقبل رئيس التحرير القصة وقال لو أردت قصة مؤثرة سأرسل "بيغي ميتشل"، كانت بيغي تعمل في الصحافة قبل أن تستقيل وتكتب بعد عشرة أعوام الرواية الشهيرة "ذهب مع الريح" عام 1936.

لم يكف أرسكين عن المحاولة. الكتاب هو سجل بالخيبات والتجارب التي قام بها. يعود إلى المنزل في المساء ويكتب قصصاً قصيرة ويرسل إلى رؤساء تحرير المجلات، وكانت القصص تعاد إليه دائماً ومعها رفض النشر. وعندما حاول العمل بمراجعات الكتب وجد صحيفة تعطيه الأجر عبارة عن الكتاب الذي سيقوم بالكتابة عنه. كانوا يرسلون له ستة عناوين أسبوعياً، وهكذا فكر في القيام ببيع تلك الكتب بعد الكتابة عنها لتصبح مصدر دخل له. وفي عام 1926 كتب حوالي أربعين أو خمسين قصة قصيرة لم ينشر أيّ منها، وأصبح لديه حوالي ألفين وخمسمائة كتاب قدمت له كأجر لمراجعتها، وبهذه الكتب الكثيرة قرر أن يفتح محلاً لبيع الكتب المستعملة، تكون أرباحه معيناً له في الاستمرار في الكتابة.

ينتقل أرسكين من مدينة إلى أخرى، ويوفر الحد الأدنى من المال لكي يستأجر غرفة ويقطع الحطب لفصل الشتاء القارس، وأحياناً يزرع البطاطا ليأكلها، فهو حطاب بالنهار وأديب في الليل. في النهار يجهز الخشب الذي يستعمله في التدفئة في فصل الشتاء البارد، وفي الليل يجلس أمام الآلة الكاتبة يصنع عالماً من الأخيلة والواقع، ويعيش حياة بسيطة فقط ليكتب، كأنه يعيش لهذه الغواية الخطيرة. لكن مشاعر الضجر والتململ وشهوة التجوال، والرغبة التي لا تقاوم للذهاب لمكان ما، كانت تحرمه من الشعور بالرضا والقناعة لمدة طويلة، وسرعان ما انتهت تلك الكتب التي كان يبيعها، وعندما زار هوليوود لأول مرة، شغلته الكتابة عن زيارة معالم المدينة.

تلقى أرسكين رسالة عام 1929 بالموافقة على نشر أحد قصصه القصيرة بعد حوالي ست سنوات من بدء محاولاته الأدبية، وفجأة انمحت من ذاكرته كل خيبات الأمل المتراكمة طيلة عدة سنين، وبلغه مدير التحرير أنهم سينشرون قصتين من قصصه مقابل "ثلاثة ونصف"، فرد كالدوين أنه تلقى أجرا أكثر من ذلك من قبل، وقال للمدير تمنيت أن تلقى أكثر من ثلاثة دولارات ونصف، فصحح له المدير المبلغ أنه ثلاثمائة وخمسون دولارا.

تلقى أرسكين رسالة عام 1929 بالموافقة على نشر أحد قصصه القصيرة بعد حوالي ست سنوات من بدء محاولاته الأدبية، وفجأة انمحت من ذاكرته كل خيبات الأمل المتراكمة طيلة عدة سنين

ثم نشر أول مجموعة قصصية له، لكن مراجعات النقاد في الصحف كانت حانقة وغاضبة، حتى جعلته يشعر أن هؤلاء النقاد ينضوون تحت فئة العاشق العنين أو المؤلف الفاشل، حتى إنه يسخر منهم بالقول "على كل من يريد أن يصبح ناقداً أدبياً أن يظهر مقدرته على ممارسة الحب بكفاءة أو تأليف مجموعة قصصية صالحة للنشر". وبعد هذه السنوات العجاف تناقص وزن الكاتب من 81 كيلو حين كان يلعب كرة القدم في الجامعة إلى 45 كيلو، لم يكن أحد يتصور أن هذا الكاتب النحيل المجهول، سينجح في فرض إنتاجه الأدبي ويوزع بالملايين ويترجم إلى اللغات الأخرى.

 ويستمر كالدويل في حكاية ظروف كتابة ونشر روايته "طريق التبغ"، وحصل على ثلاثة آلاف دولار نظير تحويل الرواية إلى فيلم. وكتب بعدها رواية "أرض الله الصغيرة"، وبدأت شهرته كأديب وكاتب مميز ومشهور. إن رحلة كالدويل تبدو شاقة لنا، وفيها كثير من الشغف حول الكتابة، والقلق من الفكرة واللغة وفيها الصراع مع توفير النفقات، لكي يجد الوقت والمكان للكتابة. لم يكن لدى كالدويل فلسفة يريد نشرها أو مذهب يهتم بالترويج له، بل كان يريد أن يصف بأقصى ما يستطيع من صدق بؤس الحياة وآمال الناس الذين عرفهم.

نجح في نهاية المطاف، وشقت روايته طريق التبغ الطريق لتعرض في برودواي كمسرحية، وتلقى ألف دولار مكافأة من إحدى المجلات، اشترى بها البيت الذي كتب فيه إحدى رواياته. ولم يكف عن الترحال والسفر داخل الولايات المتحدة، ثم سافر إلى روسيا وتسلم حقوقاً مالية نظير ترجمة رواياته إلى الروسية، وأصبح يتلقى عشرات الرسائل أسبوعياً من المعجبين تسأله عن سر الصنعة، وعمل مراسلاً حربياً فترة الغزو الألماني لروسيا وكتب رواية عن تلك الفترة وسرعان ما خطفتها هوليود بخمسين ألف دولار وطلق الرجل الفقر الذي لازمه في مقتبل حياته وكتب عنه الكثير في الروايات، لقد بدأ حياته وهو يحصل على ثلاثة دولارات في السنة نظير الكتابة تحولت إلى ثلاثة آلاف دولار في أسبوع.