أردوغان الذي لا يقهر!

2023.06.05 | 05:37 دمشق

أردوغان الذي لا يقهر!!!
+A
حجم الخط
-A

 تحت هذا العنوان كتبت وكالة الصحافة الفرنسية عقب ظهور نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التركية وإعلان فوز الرئيس أردوغان لولاية ثانية وأخيرة وقالت (أردوغان الذي لا يقهر يمدد رئاسته للعقد الثاني) في إشارة إلى أنه سيبقى في السلطة حتى عام 2028.. بينما قالت هيئة الإذاعة البريطانية BBC  إن الرئيس التركي (قرأ الناخبين أفضل من منظمي استطلاعات الرأي والمحللين الذين توقعوا هزيمته قبل 14 مايو – أيار وختمت بالقول "هذا البلد الاستراتيجي في الناتو اختار طريقه الخاص").

الآن وقد انتهت حمى الانتخابات وفترت الاستقطابات والمشاحنات صار من الممكن قراءة المشهد بروية أكثر والخروج بانطباعات وخلاصات أكثر صوابية ونجاعة.

لماذا كانت هذه الانتخابات محل اهتمام ومتابعة سياسية وإعلامية على المستويين الدولي والإقليمي؟ ولماذا بلغت نسبة المشاركة بالانتخابات نحو 89% وهي من النسب المرتفعة جدا على المستوى العالمي؟ ولماذا صوّت منكوبو الزلزال لأردوغان بالرغم من بطء الاستجابة في اليومين الأولين للكارثة؟؟ أسئلة كثيرة تثيرها تلك الانتخابات ونتائجها على المستويين الداخلي التركي وكذلك على المستويات الإقليمية والدولية.

أعتقد أن ثمة فرصة تاريخية سنحت للمعارضة التركية بتولي الحكم وشؤون الدولة بعد غياب لمدة عقدين لكنها أهدرتها بسبب عدم فهمها لاستحقاقات المرحلة، واكتفى خطابها الممجوج بتهشيم ومحاولة النيل من إنجازات حقيقية وملموسة حققها حزب العدالة والتنمية ورئيسه خلال العقدين المنصرمين، وشكلت فارقا حقيقيا في حياة الأتراك عموما ومكانة دولتهم، وهو ما اعتبره كثير من الأتراك سلوكا مستفزا وغير لائق، واعتبر هؤلاء أن من ينكر ذلك لا يستأمن على مستقبل الدولة فكان أن انحازوا أكثر لخيار التصويت لأردوغان وحزبه وتحالفه حفاظا على تلك المكاسب.

الطاولة السداسية نفسها التي شكلتها المعارضة كانت تعاني من إشكالات حقيقية لم تطف على السطح إلا بعد إصرار المرشح الرئاسي (كمال كيلتشدار أوغلو) على أن يكون مرشحا عن هذا التحالف رغم تحفظات الحزب الجيد الذي يعتقد أنه لن يتمكن من هزيمة أردوغان، وأن ترشيح أكرم إمام أوغلو عمدة إسطنبول مثلا يعتبر خيارا أكثر نجاعة ويملك فرصة أكبر لتحقيق النصر، وهي رؤية وقراءة صحيحة تماما ليس فقط لأن تاريخ كيلتشدار أوغلو حافلا بالهزائم الانتخابية، ولكن لأن الأخير لا يمثل عنصر جذب لجيل الشباب ممن يتطلع للتغيير.

السلوك الذي لم يكن شريفا بالمرة مع السيد محرّم إنجه – وهو بتقديري رجل وطني بامتياز - لإقصائه عن المشهد السياسي والانتخابي كان له أثر سلبي على حظوظ التحالف السداسي ومرشحه، لأن التسريبات المشينة نسبت بشكل أو بآخر لحزب الشعب الجمهوري وقيادته.

على المستوى الدولي شكلت نتائج الجولة الأولى للانتخابات صدمة لدى الكثير من الدول الأوروبية التي شنت صحافتها حملات ممنهجة على الرئيس أردوغان وسياساته قبيل الانتخابات

التيار القومي المتشدد الذي أطل برأسه بقوة في هذه الانتخابات وأحرز تقدما ملموسا بالقياس لقاعدته الشعبية المحدودة كان مؤشرا مهما ورسالة قوية أن ثمة من لا يريد التفريط كما يفعل الآخرون على ضفة المعارضة.

هذه العوامل مجتمعة – وغيرها كثير وأهمها طريقة مخاطبة جمهور المتضررين من الزلزال والإساءة إليهم - شكلت أهم أسباب البؤس والفشل الذريعين في إدارة العملية الانتخابية وسبل مخاطبة الجمهور ودغدغة شؤونه اليومية واحتياجاته، وعدم الانكفاء والاكتفاء بملف اللاجئين الذي تحول لمتاجرة رخيصة أكثر من كونه عنصر جذب للناخبين.

على المستوى الدولي شكلت نتائج الجولة الأولى للانتخابات صدمة لدى كثير من الدول الأوروبية التي شنت صحافتها حملات ممنهجة على الرئيس أردوغان وسياساته قبيل الانتخابات، لكنها أصيبت بالخرس والصدمة عندما أشرت نتائج الجولة الأولى لفرصة مؤكدة لحسم السباق لصالح أردوغان، وسرعان ما أدركت الحقيقة الموجعة فعدلت من خطابها وأقرت بخطأ استنتاجاتها، فالصحافة الفرنسية التي سبق أن شيطنت أردوغان وسخرت منه قالت بالحرف: إنه (أي أردوغان) معجزة حقيقية" وهو يحظى بدعم شعبه داعيا الغرب إلى تقبل ذلك (!) وقالت "لوفيغارو" : إن الإعلام ينظر إلى تركيا من خلال مرآة مشوهة تركز على المراكز الحضرية الرئيسة كأنقرة وإسطنبول وإزمير، وتتجاهل تركيا الأناضولية التي ترى في أردوغان المرشح الوحيد القادر على ضمان استقرار بلد محاط ببؤر التوتر، ويمكنه رفع صوت تركيا عاليا على المستوى الدولي، في حين رأت "ليبراسيون" أن حصول أردوغان على الصدارة بنسبة 49.51% من الأصوات في جولة الانتخابات الأولى كذّب استطلاعات الرأي، حتى إن الباحث في العلوم السياسية بيرم بالسي قال إنه مدهوش للغاية وخائب الأمل ويشعر بالخجل لأنه أساء فهم الناخبين الأتراك، ويشعر بأنه وقع في فخ القراءات المناهضة لأردوغان بين المثقفين المعارضين في إسطنبول، وهو بذلك يرى نتيجة الانتخابات الرئاسية معجزة وكذلك نتيجة الانتخابات التشريعية التي احتفظ فيها حزب العدالة والتنمية بنصف المقاعد في البرلمان.

أعتقد أن بعض الدول الغربية أدركت – ربما متأخرة - خطأ سلوكها وطريقة تعاطيها مع تركيا ولامبالاتها تجاه هواجسها الأمنية ودورها في الإقليم وإبقائها طويلا في غرفة الانتظار الأوروبية، وأعتقد أيضا أنها أدركت أن الحصان الذي راهنت عليه لم يكن بحجم هذا الرهان.. وأن تلك الحملة الممنهجة ضد أردوغان شكلت رد فعل معاكس من قبل الناخبين الأتراك في الداخل والخارج على السواء، فزاد الإقبال على التصويت وزادت نسبة التصويت له لأن جموعا كبيرة من الأتراك عموما يعتقدون أن ذلك مس بالشرف الوطني، وتدخل من الأوروبيين مرفوض ومستهجن في شأن تركيا الداخلي.

لقد اعتبر الأتراك أن ثمة في الغرب من يتربص دائما بفرصتهم في التطور والارتقاء، وثمة دائما من يريد إرجاعهم إلى الوراء وإبقاءهم تحت جناح السيطرة على كل شاردة وواردة في حياتهم، وأن تحالف المعارضة ليس أكثر من حصان طروادة الذي يريد الغرب استخدامه لاختراق المناعة التركية التي أكسبها إياها حزب العدالة والتنمية ورئيسه طوال عقدين سابقين، فكان خيارهم الوطني أكثر اهتماما وأولوية من الأزمات العارضة المتعلقة بالاقتصاد وقيمة الليرة وغلاء لقمة العيش، ربما لأنهم يدركون أن تلك الأزمات ستبقى عرضية ويمكن تجاوزها في لحظة أو مرحلة ما، وأن من صنع المجد الحديث لتركيا قادر على فعل ذلك.

تلقت المعارضة رسالة قاسية تقول لهم ليس السبيل إلى السلطة الركون لدعم الغرب وسفاراته والاستجابة لسياساته على العماء فثمة ما تحقق ولن نسمح بالعبث به

انتهت الانتخابات وحدد الشعب التركي خياره ومساره، لكن الأزمات والمخاطر لم تنته بعد بطبيعة الحال، وثمة رسائل مهمة أرسلها الناخبون الأتراك لكل الفرقاء ممن كان منهم في السلطة وبقي فيها ومن كان منهم في المعارضة وبقي فيها أيضا.. أن ثمة على السلطة ما يتعين فعله بشأن مستوى المعيشة والتضخم وارتفاع الإيجارات وأسعار العقارات وإعادة إعمار المناطق المدمرة بالزلزال وفرص العمل للشباب ومزيد من الحريات السياسية والمجتمعية، وأن التصويت للسلطة ليس شيكا على بياض أبدا.. فيما تلقت المعارضة رسالة قاسية تقول لهم ليس السبيل إلى السلطة الركون لدعم الغرب وسفاراته والاستجابة لسياساته على العماء فثمة ما تحقق ولن نسمح بالعبث به، وعندما تقدموا برامج قوية وجدية تستجيب لحاجات المجتمع وقيمه وتساهم في ارتقاء تركيا وشعبها درجات إضافية فصوتنا سيكون لكم ومصدرا لمشروعيتكم.

بالتأكيد ليس أردوغان رجلا لا يقهر، وبالقطع لم تكن وكالة الصحافة الفرنسية تعني حرفية العبارة التي أطلقتها، وإنما هي تعكس حجم الدهشة من تمكن أردوغان من تحقيق نصر لم يكن متوقعا بالرغم من كل المصاعب التي تواجهها تركيا والاستحقاقات التي تواجهها الحكومة القادمة فيها، ففي الديموقراطيات ليس ثمة من لا يقهر أو لا يهزم.. أصوات الناخبين تفعل ذلك مهما كان حجم وتاريخ المرشح.