تُعدّ مسألة العيش المشترك من أكثر المفاهيم إلحاحاً في النقاشات الفلسفية والاجتماعية المعاصرة، خصوصاً في المجتمعات التي شهدت انقسامات سياسية أو دينية أو إثنية.
ولعل الحالة السورية، تكشف بوضوح عن الحاجة إلى منظومة أخلاقية تُعيد بناء النسيج الاجتماعي بعيداً عن منطق الانقسامات الطائفية والولاءات الجهوية. فالأزمات التي عصفت بسوريا على امتداد سنوات وعقود كانت أيضاً كنتيجة لتآكل أخلاقيات العيش المشترك، حيث تحوّل الجار إلى "آخر طائفي" والمختلف إلى "خصم وجودي". إنّ تجاوز هذه البنية يتطلب إعادة تعريف الجار كشريك في وطن مشترك، يملك الحق ذاته في الأمن والكرامة والمشاركة، وليس كامتداد ضيق للهوية الدينية أو الإثنية.
لقد أشار الفيلسوف تشارلز تايلور إلى أنّ العيش المشترك يقوم على سياسة الاعتراف، أي إدراك قيمة الآخر المختلف بوصفه حاملاً لهوية أصيلة وليست ثانوية. كما قدّم الفيلسوف يورغن هابرماس أفكاره حول "التواصل العقلاني" كإطار قيمي يؤسس لتجاوز الانقسامات نحو التلاقي في فضاء عام يضمن المساواة. في هذا السياق يصبح العيش المشترك ليس مجرد تكيّف مع التعدد، وإنما صياغة أخلاقيات جديدة تضمن استدامة الاجتماع السياسي والاجتماعي.
الحاجة السورية.. من الانتماء الضيق إلى أفق الاعتراف
إذا ما استعنا بأفكار هانا أرندت حول "العيش في عالم مشترك" حينما رأت أنّ شرط السياسة هو القدرة على رؤية العالم من منظور الآخر، بما يفتح المجال لتعدد الرؤى في فضاء واحد. أما إيمانويل ليفيناس، فقد طوّر تصوراً أخلاقياً يجعل "الآخر" هو أصل المسؤولية؛ فقال حول ذلك إن حضور وجه "الآخر" يفرض عليه واجب الحماية والاحترام.
وإذا طبقنا هذه الرؤية على الحالة السورية، فإنّ إعادة تعريف "الجار" لا تقتصر على كونه من يشاركنا الحي أو المدينة، بل هو من يفرض وجوده علينا كالتزام أخلاقي دائم، حتى عندما يكون مختلفاً عقائدياً أو إثنياً.
إن المسألة في سوريا قد لا تتعلق فقط بإعادة بناء الثقة بين الأفراد، فهي تتصل بشكل أساسي بإعادة تأسيس المجال العام نفسه ليكون فضاءً مشتركاً، ولتتجاور فيه وجهات النظر المتعارضة دون أن تُلغى.
فالمشكلة السورية لم تكن مجرد غياب لمفهوم الجار بمعناه الأخلاقي فقط، حيث يتحوّل الفضاء السوري في لحظات الانقسام إلى جزر مغلقة من الانتماءات، ولا يعاد يُرَى الاختلاف كإثراء للرؤية الجماعية، وإنما كتهديد وجودي فقط.
ومن هنا، فإنّ إعادة تعريف "الجار" في سوريا يجب أن تتجاوز فكرة الحماية الفردية التي تحدث عنها ليفيناس، لتشمل بناء بنية مؤسساتية وأخلاقية تجعل من الآخر المختلف جزءاً من سردية وطنية مشتركة. الجار السوري ليس مجرد فرد يقيم قربنا، بل هو انعكاس لتعددية تاريخية وثقافية لا يمكن محوها. وإذا لم يُعترف بهذه التعددية كشرط للعيش الوطني، فإنّ منطق الانقسام سيعيد إنتاج نفسه مهما تغيّرت الأنظمة السياسية.
عندما طرحت الفيلسوفة الأميركية كارول جيلليغان أطروحتها حول "أخلاق العناية"، كانت تهدف إلى مراجعة الأخلاقيات الكلاسيكية التي ارتكزت على العدالة والحقوق بوصفها معايير محايدة لتقييم العلاقات الإنسانية. جيلليغان بيّنت أنّ هذه المقاربة العقلانية–القانونية تتجاهل جانباً أساسياً من العلاقات الإنسانية، وهو الرعاية المتبادلة باعتبارها بُعداً أصيلاً للأخلاق. لاحقاً، طوّرت نيل نودينغز هذا المنظور حيث وضعت العناية في قلب النظرية الأخلاقية، معتبرة أنّ الإنسان لا يُعرَّف فقط من خلال استقلاليته، وإنما أيضاً من خلال ترابطه مع الآخرين في شبكة من الاعتماد المتبادل.
إن الآخر أو الجار في سوريا لا يعود مجرد شخص نتقاسم معه الحي أو المدينة، ولا مجرد مواطن نتساوى معه في الحقوق أمام الدولة، بل يصبح علاقة أخلاقية متبادلة تُبنى على إدراك هشاشته وهشاشتنا معاً.
العيش المشترك في مرايا الشرق والغرب
تكشف المقارنات بين التجارب الشرقية والغربية أنّ فكرة "الجار" و"الآخر" لم تكن يوماً مفهوماً ثابتاً، بل أعيدت صياغتها تبعاً للتحولات السياسية والاجتماعية.
في التجربة اللبنانية الحديثة، مثّل اتفاق الطائف (1989) محاولة لإعادة صياغة العيش المشترك عبر المحاصصة الطائفية. غير أنّ هذا النموذج أثبت أنّ الاعتراف الشكلي بالآخر، من خلال تثبيت حصته الطائفية، لا يقود إلى أخلاقية حقيقية للعيش المشترك، فهو يعمّق هشاشة الاجتماع الوطني. لقد عُرّف "الآخر" في لبنان ليس باعتباره شريكاً في مشروع وطني جامع، وإنما بوصفه ممثلاً لطائفة في معادلة سياسية متقاسمة.
مع ذلك، لا يمكن اختزال الشرق في إخفاقاته. فالتجربة الهندية بعد الاستقلال، على سبيل المثال، قدّمت نموذجاً مغايراً. فالهند رغم كثافة تعدديتها الدينية والإثنية، حاولت –عبر دستور 1950– بناء دولة علمانية تُساوي بين الأديان، وتمنح "الجار المسلم" أو "الجار الهندوسي" وضعاً متساوياً أمام القانون. ورغم تصاعد النزاعات الطائفية في محطات مختلفة، فإنّ المشروع الهندي ما يزال يُظهر كيف يمكن للشرق أن ينتج صيغة خاصة من أخلاقيات العيش المشترك تقوم على المواطنة الدستورية لا على المحاصصة.
أما في الغرب، فقد ارتبطت فكرة العيش المشترك بمسار طويل من التحولات الفكرية والسياسية. ففي أوروبا، كان الجار في القرون الوسطى يُعرّف أساساً من خلال انتمائه المسيحي، فيما اعتُبر اليهود والمسلمون "آخرين" يُحتملون أو يُقصون بحسب موازين القوى. ومع نشوء الدولة القومية الحديثة بعد صلح وستفاليا (1648)، بدأ مفهوم "المواطن" يحل تدريجياً محل الهويات الدينية، فبات الجار هو "المواطن الشريك" في الدولة القومية، حتى وإن اختلف دينياً.
غير أنّ التجربة الغربية لم تتوقف عند الاستيعاب داخل إطار قومي صارم. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، ومع موجات الهجرة إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة، برز تحدٍ جديد حول كيفية تعريف "الجار" عندما يكون مهاجراً مختلفاً في اللغة والثقافة والدين.
هنا ظهرت سياسات التعددية الثقافية، كما في كندا التي تبنّت رسمياً عام 1971 سياسة الاعتراف بالتنوع الثقافي باعتباره جزءاً من الهوية الوطنية. لقد أصبح "الجار المختلف" قيمة مضافة للهوية الجمعية، وليس تهديداً لها.
في المقابل، واجهت فرنسا هذا التحدي عبر ما يُسمى بسياسة "الاندماج الجمهوري"، حيث يُنظر إلى الجار ليس من خلال ثقافته الأصلية، بل من خلال التزامه بقيم الجمهورية. وهذا ما جعل "الآخر" مدمجاً بالقوة في الهوية العامة، مع ما حمله ذلك من توترات وصراعات اجتماعية، خصوصاً مع الجاليات المسلمة.
إنّ سوريا، في لحظتها التاريخية الراهنة، تحتاج إلى ما يمكن تسميته بـ"أخلاقيات العيش السوري المشترك"، أي أخلاقيات تنطلق من الوعي بالآخر المختلف ليس بوصفه عبئاً، وإنما شرطاً لوجودنا الجماعي. إعادة تعريف "الجار" و"المختلف" ليست مسألة لغوية أو سوسيولوجية فقط، فهي إعادة تأسيس لوحدة وطنية قائمة على الاعتراف والتعدد، بعيداً عن الطائفية والضيق الهوياتي، بما يتيح استعادة فكرة الوطن كفضاء جامع يتسع للجمي