أخبار غير عاجلة

2022.02.09 | 05:52 دمشق

blog_post_winter_in_syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

أغلب السوريين في هذه الفترة ومع تمنياتهم بإنقاذ حياة الطفل "ريان" عبروا عن حسرتهم أمام التحرك الكبير الذي حصل من أجله في مقابل تجاهل كبير لألم ومعاناة الأطفال السوريين، لكن شدة الألم أيضاً جعلتهم يتذكرون أننا عالقون في ذلك البئر لا منذ عقد وحسب، بل منذ عقود ولم يشكل ذلك مع العالم فرقاً. 

ليس من الممكن ألا تقع في ورطة المقارنة التي تكشف عورتنا جميعاً، لنبدأ مجدداً بتقاذف الكرات ولعبة إلقاء اللوم بعضنا على البعض الآخر، بينما في الحقيقة تحترق أصابعنا جميعاً في تلك اللعبة.

نحن نعرف حجم البئر الذي وقعنا فيه وندرك أنه لا قرار له، وأننا لشدة وقع السقطة نكاد لم نعد نرى الفوّهة التي سقطنا فيها وفقدنا الطريق، الفارق الوحيد أننا لم نقع بمحض الصدفة ولا عن طريق الخطأ وإن إخوة لنا وقفوا يراقبون سقوطنا من دون أدنى رد فعل، لذلك لم يكن لنجاتنا من عدمها أهمية لدى أحد واعتبروا أنها اقتتال بين أبناء البيت الواحد.

لم تعد أخبارنا تتصدر القائمة، وأصبح الموت حدثاً عادياً حتى بالنسبة إلينا نحن أصحاب الألم والمأساة

الثورة السورية لم تعد حدثاً مهماً وقد لا يجد له ترتيباً حتى في سلم أولويات الأخبار التي تتصدر الشاشات، فـ (الحروب الأهلية) ـ مثلما اعتبروها ـ قد تستمر سنوات وتحتاج وقتاً طويلاً لتخبو نيرانها، لذلك انحاز الإعلام ضدها وانصاع إلى أجندات تذهب نحو إطالة أمد الألم مع منح جرعات مسكنات نتناولها بين الفينة والأخرى.

لم تعد أخبارنا تتصدر القائمة، وأصبح الموت حدثاً عادياً حتى بالنسبة إلينا نحن أصحاب الألم والمأساة، وباتت الحياة حدثاً استثنائياً لدينا، لا بد أن هنالك عناوين كثيرة تستحق أن تتصدر الأخبار فالعالم مليء بصنوف مختلفة من العذاب والألم لكننا ومن دون شك لا نستحق أن يستبيح العالم موتنا ويذيلونه في آخر قائمة الأخبار وكأنه حدث غير مهم.

كم كان صعباً على العالم متابعة تطورات شهيق ريان وزفيره، خوفه وألمه تبديد وحدته وطمأنته إلى أن هناك من ينتظره في الخارج وأن الجميع يصلون ليعود سالماً، لكن هذا الخوف يعيشه أطفالنا يوماً بيوم وعاماً بعد عام من دون أن يمد العالم لنا يد المساعدة ويتركنا نقتات ألمنا وعجزنا فيما يبدع بإخراج مواقف أخرى تبدي مدى دعمه للقضايا الإنسانية ونصرته للحق.

وكيف يمكن للعالم أن يضعنا على لائحة الأولويات في حالة يموت فيها السوريون من البرد حقيقة لا مجازاً في حين ينشغل الآخرون بتبادل الاتهامات أو الشماتة لمصاب بعضهم البعض؟

لا شيء سيتوقف في مكانه بسبب حربنا التي لم تنتهِ، ولا وسائل الإعلام ستضع خبراً لا يحقق مشاهدات عالية في مقدمة أخبارها، فسباق الربح والاستهلاك أصبح يحتاج مادة تحقق فكاهة وتسلية تشكل ملهاة جديدة لجمهور لا يفتأ يبحث عن مسكنات تنسيه مأساته.

الشعب المنقسم على نفسه والمختلف مع بعضه البعض من الرأس وحتى الجذور، وجد نفسه على حافة خلاف جديد لدى مشاهدة المقطع المؤلم الذي بثه الخاطفون للطفل السوري المختطف للضغط على العائلة من أجل الحصول على مبلغ الفدية، فاختلف مؤيدو النظام مع معارضيه حول أحقية هذا الطفل بجمع التبرعات ذلك أن هذا الطفل ينتمي إلى عائلة معارضة للدولة ولا يستحق التحشيد، وأن أطفال الآخرين ممن دافعوا عن البلاد وفقاً لمفهومهم أحق بالتبرعات لأجل تأمين مسكن ومأوى لهم.

نحن مقتتلون حتى في لحظات الجوع والقهر والموت الأخير، وغير قادرين على التعاطف مع بعضنا البعض، فلا يمكن أن نلوم العالم على تجاهل معاناتنا ونخن ننشغل برمي الحجارة نحو بعضنا البعض.

نحن حقيقيون جداً بألمنا الموغل وحاضرنا الذي يمرّغ أنف العالم المدعي بالوحل، لذلك لا نصلح لتكون حدثاً يجلب مشاهدات عالية

تراجعت أهمية أحداث قضيتنا ولم تعد تشكل خبراً عاجلاً منذ زمن، منذ جلسنا حول طاولة واحدة لا لنتفق وإنما لنقتسم الغنيمة، وليحاول كل فريق منا الحصول على قطعة أكبر من البلاد التي أصبحت فتاتاً بعد كل ذلك الوقت.

لم يعد العالم مضطراً إلى إخفاء لا مبالاته تجاه موتنا أو حياتنا وأصبح يجاهر بقهرنا وقتلنا المستمر من دون خجل، منذ اختبأ كل منا خلف طرف يفوقه قوة للنيل من الطرف الآخر، فأصبحنا غنيمة قيمة اقتسمونا على الملأ من دون أدنى شعور بالذنب فالعالم لن يهتم لنا أكثر مما نهتم لأنفسنا.

نحن حقيقيون جداً بألمنا الموغل وحاضرنا الذي يمرّغ أنف العالم المدعي بالوحل، لذلك لا نصلح لتكون حدثاً يجلب مشاهدات عالية، فالعالم يبحث بتسارع عما يمكن أن يشكل له فكاهة لا أن يذكره بالبؤس الموجود، أو يتسابق في معركة سيطرة الاستهلاك وفي الحالتين ليس لدى أحد القدرة أو الإرادة على إيقاف كل ذلك الهراء.

"نحن عالقون في البئر منذ أحد عشر عاماً أيها العالم، ولم يتحرك لإنقاذنا أحد"، ربما لم يكن البئر الذي سقطنا فيه عميقاً إلى ذلك الحد لكن تدافعنا إلى الصعود جعلنا نهوي في أعمق نقطة فيه، اقتتلنا طويلاً على حبل النجاة واختلفنا حول أحقية كل منا في التقاطه فامتنع العالم عن إنقاذنا تاركاً إيانا نفنى في ذلك العدم.