icon
التغطية الحية

أحمد بخيت في ديوانه الجديد "لارا".. ثورة على بائعي دمشق وأخواتها

2022.07.05 | 21:44 دمشق

lara
* موج اليوسف
+A
حجم الخط
-A

نعلم أنَّ الأديب لا يكتب من فراغ أو موهبة فقط، بل لحظة  الكتابة الإبداعية هي التي تُفجّرُ عنده الخزين المتراكم من القراءات المعرفية والثقافية وغيرها.. فيظهر المنسوب الثقافي في النص على مستويين: نخبوي، وجماهيري. الأوّل يحتاج إلى أن يحلق القارئ نحو سماء المعرفة والعلم ويبحث عن المعلومة المبثوثة في النص، أو يحاول أن يفتح أقفال معاني الاستعارات التي يتكئ عليها السياق العام للقصيدة، وهنا يفقد الشعر جماليته ورسالته.

وأما المستوى الثاني، فيكون النص الأدبي واقعاً في مصيدة الذوق العام والجمهور، فلا يستطيع الشاعر أن يخرج عن المألوف والمسموع عندهم، وبذلك تضيع عليه فرصة توظيف مشاربه الثقافية في نصه. إنّ المستويين يمكن الجمع بينهما عبر استعمال اللغة الشعرية القريبة من الاثنين، بالمقابل تكون مرجعيات الشاعر (التاريخية، والأدبية، والفلسفية) هي: تساؤلاتٌ شعريّةٌ يستفُز الشاعرُ بها متلقيه.

والشاعر المصري أحمد بخيت في ديوانه الصادر عن دار تشكيل ــــ الرياض عام 2022، بعنوان (لارا)، وظّف أكثر مرجعياته الثقافية في قصائده، والتي جاءت لتعبر عن مواقف إنسانية خاصة بالشاعر والماضي وتجلياته في الحاضر والثورة عليه، وهذه الثلاثية قد شكلتْ ثيمةً في معظم قصائده، وكأن أخطاء الماضي وزيف التاريخ كانا مسؤولين عن نكبة حاضر الأمة، يقول في قصيدته (ما يوجع النون):

يا أُمةً علّمتنا كيف نهدمها

من يوم أن علّمتنا كيف تبنينا

يا أُمةً انجبتنا كي تُصابَ بنا

          ثكلى

وأعراسُها تَدمى وتُدمينا

يا أمةً من يتيمٍ واحدٍ ولدتْ

في مأتم الحبِّ

يتَّمت الملايينا

إنّ اتكاء النص على تكرار (يا أمة) ما هو إلا شحنه بالانفعال الذي يثير فيه حماس المتلقي وهذا الأخير الذي صار بلا هوية، لا عبر الإيقاع الصوتي أو حرف الروي في القافية، بل في  صيغته اللغوية في نداء النكرة غير المقصودة (يا أمة) التي تحولت إلى خطاب مخصوص لأمة بعينها وهي (الأمة الإسلامة) عبر قوله (يا أمةً من يتيم واحد) وهذه الصورة (يتيم واحد) كناية عن النبي الكريم، الذي كان يتيماً، لكنّه بنى أمة كبيرة، وهذه الأخيرة يتّمت الملايين من أبنائها من بداية تأسيسها إلى اليوم، وإناؤها لم يخلُ من الدماء، فالشاعر بخيت يضع تساؤلاته: هل نحن أُمة خُلقت للقتل؟ وصار قاموسها ممتلئاً بأنين الأيتام؟

الشاعر هنا أنسن المدينة (الشام)، وهذه الأنسنة ليست لفنية النص، بقدر ما هي ضخ لتساؤلات الأزمة والتي لا إجابة لها: لِمَ الشام تعرضت وما زالت تتعرض للخراب؟

فتأتي ثورة الشاعر على أمته نفسها التي صارت ترمي أبناءها بشرر القتل تارة، والإقصاء تارة، حتى صرنا أُمماً ممزقة داخلها. يحاول الشاعر بخيت أن يضع تساؤلاته التي لا تخلو من ثورية ورفض، ولعل أهمها: ولمَ الشام والمدن الثقافية والتاريخية التي تحمل هوية الأمة تتعرض للحروب؟ فيقول في القصيدة ذاتها:

قالت لي الشّامُ

ما قالته لي امرأةٌ

حُسنُ الأميرة يُشقيها ويُشقينا

الشاعر هنا أنسن المدينة (الشام)، وهذه الأنسنة ليست لفنية النص، بقدر ما هي ضخ لتساؤلات الأزمة والتي لا إجابة لها: لِمَ الشام تعرضت وما زالت تتعرض للخراب؟ هنا يستعين الشاعر بالثقافة الشفاهية (ما قالته لي امرأة حسنُ الأميرة يشقيها) تعامل مع الشام على أنَّها أميرةٌ جميلةُ فأنسنها، بمعنى أن الشام ليست مدينة فقط، بل هي إنسان وروح هذا من الجانب الفني والمعنوي أن كلّ مدينة ذات جمال وتاريخ ثقافي ومعرفي تكون معرضة للاستهداف الحربي، وهذا حال الشام وسوريا في حاضرنا، الأنياب التي تفترس المدينة تعلم بقيمتها التاريخية والثقافية، فوضعت المدنية بين فكيها وصارت تقطعها، ولعل الأهم أن الشاعر أراد أن يلفت انتباه أمته إلى أهمتيها فوصفها بالأميرة الحسناء، التي لا يريدها أن تضيع كما ضاعت منا مدن أخرى، يقول:

يبكي ابن زيدون في ولّادة وطناً

والنّون تقتلنا شِعراً وتحيينا

ليس المصابُ بأنثى نصفِ عاشقةٍ

مثل المُصابِ بأوطانِ المُصَابينا

شوقي يعودُ من المنفى ونحن هنا

ننفي من الحبِّ أوطاناً وتنفينا

إنّ القصيدة تناوبت فيها ثيمتان (الأمة والوطن)، فنلحظ  في النصوص السابقة عندما كان السياق خاصاً بالمسلمين والتاريخ الماضي استعمل لفظة (الأمة)، وعندما بكى الحاضر والدول والمدن العربية استعمل لفظة (الوطن)، وهذا التحول بين الثيمتين ما هو إلّا تحرره من الهوية الضيقة وانفتاحه على هوية واحدة هي (الإنسان) وهذا الأخير وقع في بئر لا سيارة تمرُّ به بين الزمنين الماضي والحاضر، واستحضر الشاعر مدن الأندلس عبر توظيف المرجعيات الأدبية (ولّادة بنت المستكفي) الشاعرة، وابن زيدون الشاعر الذي أضاع الحبيبة والوطن والسيادة فكان صاحبَ جاه، وكأنَّ الشاعر يعتقد أننا مصابون بالاثنين (الوطن والحبيبة)، لكننا مازلنا نصّر على ضياعهما. وقد استعمل معاني (الإصابة) للدلالة على أن البشر مصابون بحبّ الأوطان، لكنهم لا يجيدون المحافظة عليها، فكلّ أوطاننا في ضياع، وهذا ما يقوله في قصيدته (فلاحة):

من يكتبُ التاريخ؟

فأرٌ هاربٌ للسّدِّ لا يكفي

لتسقط مأربُ

يتأمل الأشجار

ثمَّ يرى بها خشب الصّليب

ولا يرى من يصلبُ

سيفرُّ من كسرى

لقصيرَ

ربّما طهران مكّتهُ.. وروما ويثربُ

إنّ النصَّ مشحونٌ بالمكان الذي جاء مكتظاً بالعنف والدماء، ولعل المرجعيات الثقافية الواردة فيه: (التاريخ، صلب يسوع، الشخصيات، المدن) نلحظ أنه قد استعمل أسماء المدن القديمة؛ لأنَّ سياقه الشعري كان في التاريخ، والمدينة التي قطع شريانها وظلت نازفة فدار النص حولها هي (مأرب وسدها) الذي يعود تاريخه إلى الألفية الأولى، وقد شيدته الملكة بلقيس في اليمن، فماذا بقي منه الآن؟ إن هذه المدينة موضوعة على خشب الصلب ولا تعرف من يصلبها. لكن ما نلفت إليه نظر القارئ أن الشاعر استعمل أسماء المدن العربية القديمة (مأرب- يثرب) بالمقابل استعمل اسم مدينة ليست عربية باسمها الحديث (طهران)، فهل الشاعر ينفي الأصالة والقدم عنها، وما علاقتها بالمدن العربية؟ سبق وأن ذكرنا أن مأرب أو اليمن موضوعةٌ على خشب الصلب، والذي يصلبها بعض أبنائها!!

 ولهذا اختار الشاعر لفظ (الصلب)، فمن الذي صلب المسيح؟ أليس تلاميذه في حادثة العشاء الأخير عندما قال لهم في "لوقا" عشاء الفصح (هذا جسدي الذي يبذل من أجلكم). والكهنة اليهود الذين تآمروا عليه؟ فكذلك الشام واليمن وبعض المدن العربية تصلب من قبل بعض أبنائها الذين يتلقون الأوامر من مصدر تشريعي غير عربي، يبيح القتل بين أبناء الأمة الواحدة، وهو ما عبّر عنه الشاعر عنه بقوله:

 سيفرُّ من كسرى

لقصيرَ

ربّما طهران مكّتهُ...

فطهران صارت مكة الذين يؤمنون بدمار بلادهم ونفي هويّتهم وإلغاء الأمة والوطن.

الشاعر أحمد بخيت في ديوانه يوظّف كلّ مرجعياته الثقافية في تساؤلات شعرية، وهذه المرجعيات لم تشوه فنية شعره، بل خدمت موضوعاته الشعرية التي تعددت في القصيدة الواحدة. واستطاع من خلال هذه المرجعيات الثقافية تمرير ثورته وإيقاظ روح الهوية عند المتلقي العربي.


بين انتقاده التغوّل الإيراني ومشاركته في فعالية إيرانية.. البخيت يثير الجدل

أثارت مقالة موج اليوسف عن البخيت جدلاً واسعاً، وخاصة بعد إشارة بعض المتابعين من الكتّاب والشعراء السوريين الغيورين إلى أن الشاعر المصري صاحب الديوان المذكور، كان قد "فاز منذ شهرين بجائزة قاسم سليماني"، وبعد البحث تبيّن بأن البخيت شارك ضمن لجنة تحكيم في مهرجان "شعري" حمل مسمّى القائد السابق لميليشيا "فيلق القدس" الإيراني المعروف بارتكابه جرائم الحرب بحق السوريين والعراقيين وغيرهم، "قاسم سليماني". وذلك في شهر نيسان الفائت.

الكاتبة اليوسف صرّحت عبر تغريدة بأنها لم تكن على علم بمشاركة البخيت في ذلك "المهرجان"، وأبدت استغرابها من البون الشاسع بين قصائد مجموعته "لارا" ومراميها، وبين قبوله المشاركة في تلك الفعالية. كما أبدى العديد من المعلّقين والمغرّدين دهشتهم للتناقض الذي اجتمع في شخصية البخيت من حيث مضمون المجموعة الشعرية التي تناولتها اليوسف من جهة، ومشاركته كمحكّم ضمن جائزة حملت اسم (إرهابي) إيراني شارك في سفك دم السوريين وشعوب المشرق العربي قبل اغتياله من قبل الولايات المتحدة الأميركية في مطلع 2020.

ففي حين انتقد بعض الكتّاب والأدباء السوريين والعرب المقالة بوصفها "تجميلاً لصورة البخيت وتغطية لموقفه غير المعلن تجاه إيران وميليشياتها"، رآها آخرون اعترافاً جلياً من الشاعر بمدى وحشية إيران وتدنيسها مدن المشرق العربي التي بيعت لها على يد تابعيها ومريديها من "الطائفيين" و"المتآمرين عليها". ولا ضير في الكشف عن هذه الحقيقة في قصائد شاعرٍ قَبِل أن يكون أحد أعضاء لجنة التحكيم في مهرجان باسم "سليماني".


* ناقدة وأكاديمية عراقية