أحلام عصيّة على الترويض.. يوسف والبتر

2019.08.13 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تعرفتُ على يوسف الحاج، شابٌ عشريني سوري، بُتر طرفاه (يده وساقه) إثر سقوط صاروخ روسي بالقرب من سيارة كان يستقلّها وأصدقاؤه في حلب صيفَ العام 2016، تعرفتُ عليه في إحدى فعاليات المجتمع المدني السوري في ولاية غازي عنتاب التركية، وألقى وقتها كلمة صغيرة لخّص فيها حكايته مع الثورة والبتر، وكيف أودى به الأخير إلى بتر حلمه أيضاً، فقد كان لاعب كرة قدم، لكن منذ إصابته اختفت الكرة وبطولاتها من حياته وحلّ عوضاً عنها مباريات من نوع مختلف مع لاعبين جدد ومرمى بعيد كالسراب. خلال الجلسة تردّدت بطلب رقم يوسف شعرتُ أنني أتحيّن فرصة لكتابة تقرير صحافي، وأنا التي أمشي على ساقيّ وأستخدم يديّ كيفما شئت، لكن لطفه وانفتاحه عندما اقتربتُ لأتعرّف عليه شجعاني على مصافحته وطلب الرقم.

أدّى يوسف كلمته مع بعض الحركات التعبيرية بإحساس عميق وكان مقرّباً ومحبّباً من جميع الحاضرين، يتحدّث بهمة وحماس عن رغبته في الاستمرار بالعمل والأنشطة التطوعية المرتبطة بالثورة وروح الشباب المشتعلة، على الرغم من ألمه وحسرته وعجزه بعض الشيء فهو قد خسر طرفاه اليمينين وفيهما تتركز العزيمة والقوة.

أما قصة يوسف فهي غريبة بعض الشيء وتختصر عنفوان الثورة وعفويتها، فالشاب الحلبي لم تخوّل له نفسه ترك أصدقائه في حصار حلب يموتون وحدهم فهجر أهله ومُستقرّه في غازي عنتاب التركية وكان يعيش فيها منذ العام 2013، وعاد إلى حلب حيث الموت المحدق من كل الجهات، وهو يعلم أنه إن نجا من الموت جوعاً فلن ينجو من صواريخ روسيا التي عطبت

منذ اندلاع الثورة ومشاركته الواسعة فيها يعيش حالة حبّ متصلة، نضجَ مع الثورة وأصبح رجلاً خلال سنونها

قبله ملايين السوريين. من وجهة نظره (بحصة تسند جرة)، والأصدقاء يشدّون بأس بعضهم بعضاً في الحصار وعلى الجبهات، فيكون أي منضم جديد داعماً ومؤازراً حتى إن لم يكن مقاتلاً محترفاً.

عندما سألته عن مسوّغات إيمانه العميق بالثورة لم يستطع الإجابة، لكنه أوحى لي أنها عشيقته، فهو منذ اندلاع الثورة ومشاركته الواسعة فيها يعيش حالة حبّ متصلة، نضجَ مع الثورة وأصبح رجلاً خلال سنونها، في بدايات الثورة دفعه إحساسه بالتمرّد ورفضه الظلم إلى الإعجاب بها، وصعد معها تباعاً فكانت الثورة قاسماً مشتركاً جمعه بحبيبات ثوريات أحطنه أثناء إصابته وبعدها بوابل من اللهفة وشاركنه مشاعر الجمال فكان قلبه كلّ يوم يتعلق بها، فبدونها يغدو الحب أجوفَ.

أن تسقطَ وتنهض من أقصى الألم، أن تستحضرَ كلّ يومٍ مشهدَ الرعب الذي عشته أثناء سقوط الصاروخ على جسدك فتطيرُ يدكُ أمام عينيك، وأنتَ مصرّ لآخر رمق أنه حلم، لكن بعد مرور لحظات تكتشف أنه واقع فتقول: "لا بأس أستطيع العيش بيد واحدة"، هذا ما خطر ببال يوسف عندما انجلى الدخان واستقر الصاروخ إلى هدفه، وتذكّر حينها رجلاً كان يقطن في حيّه مبتورَ اليد، وتساءلَ ما معنى

يوسف اليوم بدون عمل ثابت، ولديه معضلة مالية لن يتمكّن من حلها إلا إذا استقلّ مادياً، فهو يكره المساعدة والمؤازرة المصحوبة بنصائح الترشيد

أن يعيش الإنسان بيد واحدة إنه لأمرٌ سهل! لكن عندما توسع دائرة الرؤية قليلاً فتجدُ أن ساقكَ أيضاً قد سبقت جسدك ببضعة أمتار، وأنكَ بتّ الآن عالة على الآخرين، لا يمكنك أن تقاتل ولستَ هدفاً للقتل، لا تصلح لا للهجوم ولا لصدّه، لا تخرج في مظاهرة ولا تقف في اعتصام، لا تعمل ولا تنتج، لا تحب ولا يقعن في حبك، حتى الأحلام باتت تؤرق من حولك فنصبوا لها حدوداً. بهذه المفردات اختزل يوسف قصته، مؤكداً أنه تعايش مع كلّ المنغصات، غير أنه لم ولن يتمكّن من التعايش مع كبح أحلامه وإخماد نار الثورة في داخله.

يوسف اليوم بدون عمل ثابت، ولديه معضلة مالية لن يتمكّن من حلها إلا إذا استقلّ مادياً، فهو يكره المساعدة والمؤازرة المصحوبة بنصائح الترشيد، ويأبى أن تروّض أحلامه وطموحاته، لكنه يعيش حالة من العجز والتيه سببها قلة حيلته واحتراف من حوله تحجيم الخيال، الطموحات والإيمان، فمن موقف الفارس المقدام الذي لم يخشَ الموت أو العطب في سبيل شرف لم يكن بعد يدرك كنهه، يريدون منه أن يحيا الآن نصف حياة، حياةً تتواءم مع نصف جسد، ونصف تكوين. ضمير الجمع هنا عائد على دائرة يوسف المقرّبة من أهل وبعض المعارف الذين لا ينفكّون يذكرونه بأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة وعليه أن يقبل بأوهن الخيارات.

يعكس يوسف صورة مصغّرة من الثورة السورية، وهو واحد من ثلاثة ملايين سوري تحولوا من أصحاب قضية إلى أعباء على المجتمع بفعل محدودية الأخير في تعاطيه معهم وتحطيمهم بشتى الطرق، هذا التحطيم الذي يبدأ بنظرات ونعوتات قاسية ولا ينتهِ بسحب الثقة والأمل، وأبرز شاهد على ذلك هو أن يوسف والكثير من رفقائه هم حالياً بدون عمل، وتتتالى إلى مسامعهم نشرات وإعلانات حول ورشات دعم نفسي لذوي الاحتياجات الخاصة، يردّ يوسف مراراً أنه كما غيره من المصابين بصحة نفسية ممتازة وليس بحاجة إلى دعم نفسي هو فقط بحاجة إلى عمل!

كلمات مفتاحية