أحداث سجن الحسكة ودعشنة العرب

2022.01.27 | 14:33 دمشق

f6349994937bb705ecd09153.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يعد أمراً جديداً أن تلصق تهمة الإرهاب والدعشنة بالعرب، ولاسيما من قبل الكتاب الذين تحركهم توجهات باتت معروفة، فقد غدا الأمر من باب "ضربة لازم" في عرف الكثير من الكتاب الذين ينخرطون في هذا المسار الذي تدفعهم إليه عوامل شتى، تنوس بين دوافع قومية يقع اهتمامها خارج حدود سوريا، وأخرى مذهبية ضيقة معروفة بانغلاقها تسوغ بها مشاركتها في الحرب على المجتمع السوري.

 وفي وسط هذا الزحام الإعلامي، لا تبقى لدى المرء الرغبة في الرد على كثير مما يرد من اتهامات في المقالات التي يدبجها أصحابها، انطلاقا من الهاجس الذي ذكرناه أعلاه، غير أن بعض المقالات تستوقف القارئ لكثرة ما تحمله من مغالطات، ولما تشي به سطورها من رغبات لا تفلح الكلمات المنمقة في إخفائها، وكيلا تمر تلك الاتهامات والتخرصات في كل مرة دون أن يسجل أحد ما اعتراضا عليها، بحيث تصبح نسقا مستقرا في أذهان الجيل السوري الذي لم يعاين أحداث السنوات الماضية بسبب صغر سنه.

في إطار هذا السياق المشار إليه، سياق دعشنة العرب، فاجأنا تلفزيون سوريا يوم 24/01/2022م بمقالة معنونة بـ "أحداث سجن الصناعة بالحسكة والانهيار المجتمعي"، يكيل فيها الكاتب الاتهام لعرب الحسكة، ويحملهم مسؤولية الأحداث التي جرت مؤخرا في سجن الصناعة، حيث سيطر مئات الدواعش على السجن في عملية ماتزال غامضة حتى الآن، وربما لن نتمكن من معرفة تفاصيلها كأغلب العمليات الأمنية التي جرت في سوريا في العقد الماضي.

ومع أن المقالة تبدأ بالقول إن تنظيم داعش "يستوعب كل الأجناس"، فإن الكاتب سرعان ما ينقض هذا القول الذي يعمي من خلاله عن رؤيته الحقيقة، وهي أن هذا التنظيم الإرهابي يجد ملجأ "ضمن شرائح مجتمعية"، وهذه الشرائح ليست إلا "النخب السورية، وعلى وجه الدقة النُخب العربية في محافظة الحسكة". وليت الأمر توقف عند هذه التهمة وحدها، ذلك أن السطور تقول شيئا آخر، تقول ما يريد الكاتب إخفاءه، أي: الرغبة الدفينة بأن تتحول مناطق العرب في الحسكة إلى حواضن لداعش، الأمر الذي "سيعني تدميرا جزئيا أو أكثر للبنى التحتية لتلك الأحياء، وسحق حيواتهم". هكذا تتلبس الرغبة لبوس الخوف والشفقة على الناس الذين خيبوا ظن الكاتب ولم يسمحوا لهذا التنظيم الإرهابي بالتغلغل في صفوفهم.

والحقيقة أن المقالة لا تقول شيئا آخر غير هذا الذي ذكرته، فباستثناء الحديث عن تحميل العرب في الحسكة مسؤولية أحداث السجن، لا نعثر في المقالة إلا على عبارات غامضة تطالب السلطة الحاكمة هناك أن تكون أكثر شراسة في تعاملها مع "القاعدة التي بدأ منها العنف- الفساد"، فليس لهذه "الحاضنة" من حل عند الكاتب إلا "النفي". وهؤلاء الذين يطالب الكتاب بنفيهم ليسوا سوى عرب الحسكة.

وعلى الرغم من أن متابعة وسائل التواصل للوصول إلى نسبة حقيقية في تأييد هذا الطرف أو ذاك أمر لا يمكن التثبت منه إلا من خلال أهواء الكاتب ورؤاه الإيديولوجية، التي تريه ما يريد رؤيته لا ما هو واقعي أو حقيقي، في دلالة صارخة على زيف الوعي الذي تنتجه الإيديولوجيا التي يتبناها- على الرغم من ذلك يذكر الكاتب أنه "منذ ليلة الخميس 20/1/2021م، ومع عملية الاقتحام والاستعصاء في "سجن الصناعة"، تشهد وسائل التواصل الاجتماعي كثافة في مصطلحات التشفي والعنف على اختلاف المسميات والدرجات والأشكال".

وأظن أنني تابعت الكثير من الصفحات الإعلامية التي كانت تنقل الأحداث من منطلق الحرص على أبناء الحسكة أنفسهم، وأظن أن أغلبها كان يقف في جانب قسد، لا حبا بقسد نفسها، بل كرها بالدواعش وبما يمكن أن تحمله سيطرتهم من خراب وتدمير وعودة إلى مربع العنف ودوائره الجهنمية. وهو أمر أظن أنه لا يخفى على عرب الحسكة أنفسهم الذين سيكونون أول من يتعرض للقصف والتدمير. أما الوسائل الإعلامية التي كانت تتحدث عن عملية تهجير لعرب حي غويران، فأظن أنها وسائل لا تستحق الرد عليها، فليس لهذه العملية من وجود إلا في أذهان المرضى بداء الشوفينية من العرب والكرد على حد سواء.

خلاصات الكاتب وتوجهاته الإلغائية تختلف عما هو موجود على أرض الواقع، فالمقاتلون الذين يشاركون في إعادة السيطرة على سجن الحسكة أغلبهم من العرب، وأغلب الذين ذهبوا ضحية المعارك هم من العرب أيضا.  ولهذا كان على المقالة بدلا من الحديث عن "الهويات المخترقة" أن تتجه إلى الكلام على "العناصر والقيادات المخترقة" التي كانت وراء الخلل الأمني، الذي أدى إلى هروب مئات الدواعش من السجن الذي اكتشفنا أنه موجود في حي سكني، على الرغم من أنه يضم بين جدرانه مجموعة كبيرة من الإرهابيين الذين ينتمون لدول عديدة. فالعرب الذين يحملهم الكاتب وزر هروب سجناء داعش فوجئوا كغيرهم بهروب أعداد كثيرة من السجن الذي يبدو أن عملية الاستيلاء عليه جرت من خلال فساد قيادات في "قسد" ليس فيها أحد من العرب، وبخاصة مع اقتصار القيادات على كوادر حزب العمل الكردستاني القادمة من جبال قنديل، والتي همشت السوريين الكرد أنفسهم. إن ما جرى في سجن الحسكة ربما كان محاولة للتغطية على هروب مئات العناصر الإرهابية من السجن، والتي تسربت الأنباء بأنها كانت تدفع آلاف الدولارات كي تتمكن من الهرب والعودة إلى بلدانها.

يعرف السوريون الكرد قبل غيرهم من أبناء المناطق السورية الأخرى أن أبناء الجزيرة هم أبعد الناس عن التطرف، وأن عرب الجزيرة هم أكثر الناس شعورا بما عاناه الكرد في ظل الحكم البعثي الذي أصبح –وياللمفارقة- بعد عام 2011م الأقرب سياسيا لدى مناصري حزب العمال الكردستاني بمشروعه العابر للحدود السورية، في دلالة على تخادم الطرفين. لقد تعرض عرب الجزيرة والفرات للتهميش مثلهم في ذلك مثل الكرد، ومازلت مؤمنا أن أهل عين العرب والقامشلي ورأس العين من الكرد هم أقرب إلى عرب الجزيرة والفرات من أبناء حلب وحماة وحمص، لا بفعل القرب الجغرافي، وإنما بفعل دهر من التعايش المشترك والإحساس بالقهر  والظلم الذي تعرضنا له معا  منذ نشأة الدولة السورية، ولكن السياسات التي تنتهجها سلطات الأمر الواقع حاليا هي بطريقة ما استمرار لسياسات الأسدية نفسها التي كانت تنظر بدونية إلى المنطقة ككل، أما الآن فيجري التمييز بين العرب والكرد من خلال تفضيل مناصري حزب العمال الكردستاني في التعيينات والإدارات. ليست "قسد" أو "مسد" أو الإدارة الذاتية هي التنظيم الأمثل الذي يريده السوريون في منطقة الجزيرة والفرات، فالإدارة الحالية إدارة ينخرها الفساد، وإن كان الإنصاف يقتضي القول إنها أكثر المناطق الخارجة على سلطة النظام السوري من ناحية الخدمات، وهذا نابع أولا من حجم الموارد الهائل الذي تتوفر عليه المنطقة، والحضور الأميركي الذي يمنع تحول سلطة الأمر الواقع إلى سلطة شبيهة بمثيلتها الأسدية.

أجل، لقد قامت خرافة الخلافة الداعشية في مناطق الفرات والجزيرة الفراتية، ولكن انتشار داعش في تلك المناطق لم يكن لأنها كانت حاضنة لهذا التنظيم الإرهابي، فأهل الفرات والجزيرة هم أكثر السوريين زهدا بالتنظيمات الدينية، وأقلهم التزاما بالنواهي والأوامر الدينية.

إن السبب وراء انتشار داعش في تلك المنطقة عائد إلى أن تلك المنطقة كانت هشة من الناحية السياسية، ومسالمة من الناحية الاجتماعية، وهو أمر استغله النظام السوري من قبل كما تستغله "قسد" الآن. إن ضعف العشائر العربية في المنطقة نابع من طيبتهم الفطرية التي استقوها من قيم البداوة والحياة ما قبل الصناعية والتجارية الحديثة التي لم تعرفها مناطقهم، وهم في هذا يشبهون الكرد السوريين، باستثناء أن الكرد لديهم تنظيمات سياسية. لقد انتهت دولة "داعش" المزعومة دون أن تخلف وراءها مؤمنا بها أو مدافعا عنها، اللهم إلا باستثناء عناصر معزولة لا يمكن أن تشكل نسبة مئوية، ولم تكن حتى في ظل حكم داعش وسطوتها ظاهرة مجتمعية يعتد بها.

أخيرا، من الغريب جدا أن تسمح وسيلة إعلامية سورية، يفترض بها الدفاع عن الهوية الوطنية السورية، لأشخاص ذوي توجهات عنصرية، أن يبثوا أفكارهم المسمومة من منبر ينبغي أن يكون محرابا لكل من يؤمن بقيم الثورة السورية، ووحدة الأرض والشعب السوريين، بعيدا من الدعوات الشوفينية التي تريد بناء أوطان متخيلة على حساب الوطن السوري.