أجنبي وأجنبية من جذور سورية

2021.07.31 | 05:09 دمشق

567518239726caf85fa09e0642959e62c753d9a2f18236eb1da.jpg
+A
حجم الخط
-A

نحو عقد من الزمان لم نلتقِ، ربما التقتْ أحلامُنا التائهة ذات مرة، من الصعب الجزم بذلك، لكن تشير الأنباء الواردة من "الكافتيريا" التي التقينا بها اليوم في المدينة الشاسعة، إلى أننا بدأنا جلستنا بسرد عقد من الزمن، ماذا فعل بنا هذا العقد؟ وماذا فعلنا به؟ كيف تلخص عقداً من الزمان بجلسة؟

يبدأ السوريون هذه الأيام، حين يلتقون بعد غياب، بالاطمئنان على بعضهم ورقياً! مدخلٌ ليس بالأمثل للقاء شخصيْن يملكان كماً كبيراً من الأحلام الطائرة، التي يمكن أن تتقاطع في أفق ما، أو أن يتشاركا لحظات من الزمن القادم، ربما تسبق لحظة الاطمئنان كلمة ناتئة من هنا أو من هناك، فحواها تأكيد أنك لست مريضاً بعد بالمرض السوري المزمن: "جواز سفر"، أو قد يكون رغبة بأن تظهر للآخر أنك يمكن أن تشاركه الحلم، إنْ كانت المطارات إحدى محطات هذا الحلم.

مدخلٌ رومانسيّ

قد يكون الحديث عن المستندات السورية أفضل مدخل رومانسي، تبدأ الحديث فيه مع صبية جميلة، فرصة لأن يُظهِرَ كلٌّ منكما أفضل ما عنده من مهارات ورحلات ومغامرات للحصول على مستندات جديدة في هذا العالم!

تشير أساسيات علم الاتصال إلى أنَّ خير حديث لبداية التواصل بين البشر تكون من خلال الحديث عما يكون مشتركاً وعاماً، ويعطي انطباعاً بالدفء، أو ممّا لا يمكن الخلاف حوله من مثل: ما نوع القهوة التي تحب أو الموسيقا التي تسمع؟ ما أحوال الطقس؟

غير أن "سردية" المستندات عند السوريين تكشف مهارات جديدة لدى كل منكما، تختصر زمن التعارف، إبان حديث أولئك الأجانب من جذور سورية، ينسى كل منهما ما قاله للمحقق يوماً أول وصوله للبلد المضيف، أو سرديته الرسمية. ليستعيد بدلاً من ذلك طفولته أو تفاخره أمام السوريّ/ة الآخر/ى، يحدّثه كأنه لم يفارقه، أو التقى به، كثير من التفاصيل لا يشرحها له، لديهما خزّان مشترك من الألم، رِهاب الأوراق الرسمية، لا بدّ من أن يذكره بكمّ الإهانات، أو صعوبة الحصول عليها فيما سبق.

الخوف مكون هوية

يتحدث أمين معلوف في الهويات القاتلة عن مشترك الوجع بصفته مكون هوية، لعلّ أبرز ما يشترك به السوريون هذه الفترة من تاريخهم هو "مكون هوية الأوراق الرسمية القاتلة"، هناك خوف مترسخ من الرسمي، علاقة الدولة بمواطنيها، يحدثني متقدمون في السنّ أنه في أثناء قرار الحكومة أن يكون في قريتنا مدرسة في عقد الستينيات من القرن الماضي، كان الأهالي قد اتفقوا على التبرع بقطعة أرض للمدرسة، أقرب بيت عليها يقع على مسافة لا تقل عن 3 كم، فهم لا يريدون أي رمز حكومي يخترق خصوصيتهم.

بُنيت الدولة السورية على علاقة خوف مع المواطنين، الذين كانوا يتطيرون من كل ما هو رسمي، إذ لم يراع سياق حركة المجتمع، أو لم يكن مفرزاً من مفرزاته، ربما لم يشرح أحد للمواطنين يوماً: لماذا يجب أن تكون هناك دولة؟ أو لأنهم لم يروا الخير المنتظر منها؟

يمسك السوري جواز سفر الآخر حين يلتقيه، يقلّبه بشغف تحمله الأصابع والنظرات، معجباً بمهارته بالحصول عليه. هناك على طاولة أخرى ينظر إليهما سوريٌّ آخر، متحسراً على الظرف الذي وضع فيه، ها هو يكتشف أن كل ما حصل عليه من فرص لا يساوي الحصول على مستند يخفّف من ألم رأسه، لا يحسدهما، لكنه يغبطهما!

بلادٌ جديدة

قبل أن ينتهي فنجان القهوة الأول، يتحدث الأجنبي والأجنبية من جذور سورية عن البلاد الجديدة، يركزان حديثهما على أبرز ما فيها، بحماسهما اللطيف، يريد أن يثبت كلٌّ منهما للآخر أنَّ خياره، الذي لم يكن له فيه أدنى درجة اختيار، والصدفة وحدها من قادته، هو خيارٌ سليم!

يحرصُ كلٌّ منهما على أن يظهر أجمل ما في تلك البلاد الجديدة، ويوصلان رسائل يفهمها السوريون جيداً، لها علاقة بنوع اللباس أو الطعام أو المعاناة أو الفرص.، لعلهما يقتنعان أن فقد الوطن يمكن تعويضه مؤقتاً!

من يستمع لحديث هذين السوريين ستدهشه قدرتهما العجيبة على اقتناص لحظة السرد وسط كل هذه العتمة، كيف لناجيَين من الحرب أن يحولا حياتهما الجديدة إلى حديث عن منجز؟ وكيف يغدو الفرار منجزاً؟ كيف لهما وقد رميا خلف ظهريهما سنوات طويلة من البناء ومحاولات البناء أن يبدأا مما تحت الصفر؟

حدَّثتْه كيف أنها كانت سعيدة حين جلست، وهي على حافة الثلاثين تتعلم لغة جديدة، وحدثها كيف أنه كان سعيداً بتعليقات أطفاله على مخارج الحروف لديه وقد تشكلت حباله الصوتية، استذكرا معاً كيف جلسا كطالبين ومسحا السبورة، وكانا سعيدين بتجربة أنهما طالبان، وانسجاماً مع لعبة السرد، لم تقاطعه تلك الصبية ولم تقل له: إن مقاعد الدراسة ليست بعيدة عنها، وأنها لا تشبهه في هذه النقطة، وهو الذي اعتاد أن يكون أستاذاً! قالت لنفسها: في لحظات السرد تغدو المقاطعة شيئا ثقيل الحضور.

ليس من الضروري أن تكون تصرفات الأشخاص، وفق حسابات المعقول في عالم السرديات فحسب، إذ كيف لك أن تتحدث عمن يترك سيارته من دون أن يطفئها لساعات ثم يعود من مشواره، ليكتشف أنه تركها من دون أن يطفئ محركها، وأن أحداً لم يمسها.

كيف لك أن تصعد عبر القطار، وفي منتصف الطريق، تنسى أن لديك سيارة نسيتها هناك! تلك حكايات قد تحدث في أيّ مكان في العالم لكن حين يلتقي سوري بسورية يعطيانها بعداً آخر، يطلقان عليه: (نزيف الذاكرة!).

لا يمكن لأجنبيَين من جذور سورية أن يلتقيا من دون حديث مفصل عن الطعام المفقود؟ ماذا يحبان وما نوع البهارات التي يميلان إليها؟ سيحدثها عن تغير مذاق الأطعمة في فمه، وستحدثه عن عاداتها الجديدة في شرب القهوة.

سألتني صديقة أوروبية مرة، عن سرّ أحاديث السوريين حين يلتقون، وأنهم يضحكون على كل شيء، ولديهم استعداد لقلب كل شيء إلى حكاية ونكتة، قلت لها: هذه طريقة سورية في التغلب على الوجع، الذي كانوا يشعرون به، يصنعون من التفاصيل الصغيرة لحظات فرح!

نوم الملف السوري والعودة إلى مسقط الرأس

لا يستطيع الأجنبيان من جذور سورية مهما حاولا، الهروب من السؤال المؤجل: متى نرجع وكيف سنرجع؟

قالت له: وعدٌ مني لك، أن أول لحظة سقوط النظام، سآخذ أول طائرة وأمضي، لن أفكر بالعمل أو الأمان، سأعود، وكفى، وسأرقص في ساحة الأمويين، حتى لو أطلق المشايخ مئة فتوى في تحريم الرقص!

لم يسألها عن سردها السابق حول جماليات الحياة في البلاد الجديدة، لأنه هو الآخر قال لها: احجزي لي تذكرة معك!

كادت أن تسأله: وكيف لي أن أحجز التذكرة وأنت أجنبي من بلد آخر؟

غير أنها فضلت الصمت "الأجنبي"، من يعرف؟ ربما في تلك اللحظة تكون الأقدار قد شاءت أن يعيشا في بلد واحد، وقد جمعتهما فرصة عمل، أو سوى ذلك!

هرب الأجنبيان من جذور سورية من تفاصيل سوريّتهما في هذا اللقاء الطويل كثيراً، رغبة في المشي نحو الأمام، والتأكيد على لحظة إنجاز، لكنهما في لحظة سرد، وجدا أن هذا اللقاء لم يكن ليحدث لولا أنهما من جذور سورية، تلك الـ "سورية" أكثر شيء تذمّرا من وجعه، لكنها في الوقت نفسه كانت أكبر نقطة مشتركة لمّت تفاصيل أحلامهما السردية!

قبل أن ينصرفا، كانا يريدان لأحلامهما، التي تريد تجاوز الزمن، أن تنام قليلاً مع نوم الملف السوري في خزانات الأرشيف العالمية ومراكز القرار، فحدّثته عن نومها القلِق، وهي التي كانت تنام، حين كان هناك بلاد، بشكل طبيعي، عن نومها القصير المستعجِل، تسعى إلى أن تسابق اليوم التالي، أو تريده أن ينصرف بسرعة، تعبر عن رغبتها باستعجال النهايات، تتذمر من إيقاع الزمن الثقيل.

يشتكي من وحدته هناك، رغم كثرة المحيطين به، ويحدّثها عن صعوبة مشاركة شخص آخر السرير، وأنه يُفضِّل الجهة اليسرى منه، وأن أكبر معاناة مرّ بها، حين تزوج من زوجته السابقة، هي أن يتكيف مع فكرة غطاء واحد لشخصين، وأن يعتاد كذلك الاستيقاظ وبجانبه شخص آخر، كأنه لم يلتق به من قبل!

حدّثته عن رواية قرأتها، فكرتها الرئيسية: كيف تتشارك مع شخص آخر غطاء سرير، مخصص لشخص واحد، دون أن يبرد أيّ منكما، أو يظلمه؟

قال لها، قبل أن يسألها عن اسم الرواية: هذه هي مشكلة الوضع السوري، الغطاء أقصر من أحلام الشخصيات، وكلّ منها يحاول أن يجره إلى جهته، ولا يحسب حساب السوري الآخر، ويظن أنه أولى بالغطاء. كيف لنا أن نتدفأ بهذا الغطاء دون أن يبرد سوريّ آخر؟ وألا يتكسّر مفهوم العدالة الذي يجب أن يكون بوصلتنا القادمة؟

سألها عن اسم الرواية، بحثتْ في ذاكرتها طويلاً، لم تتذكر اسمها، خطر ببالها أن تسميها "أجنبيان من جذر سوري".

قالت له: الرواية فيما أذكر، تتحدث عن فصل الشتاء، ونحن الآن في فصل الصيف، غطاءٌ خفيف لأحلامنا السورية يكفي، غطاء من أوراق، أو اعتراف، أو سوشيال ميديا، استماعٌ لوجعنا فحسب، فالأرواح أنهكتها الحرب، وصار انكسارها أسرع مما يتوقع مراقبون، يشغلهم تأليف حكايات جديدة عن أجنبيَين من جذور سورية.

لم يتفقا قبل الوداع على لقاء جديد، هربا بسرعة من عيون تقول إنه اللقاء الأخير، تركا هذا للمصادفة والظروف، وحدوث "الفعل القدريّ" الذي طال انتظاره سورياً.