أبو علي: بين بوتين وهتلر

2022.03.19 | 05:14 دمشق

645x344-1646504180559.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما أشبه اليوم بالبارحة، أما الأسوأ فهو تكرار دورة التاريخ دون تعلم أي شيء منه.

لم يمل المتابع العربي، وكل من يعيش إلى جواره في أراضي الشرق الواسع، من المنعكسات العاطفية على التطورات السياسية في العالم، بحيث تتحكم العاطفة والخيال والتمني مكان العقل والتبصر والقيم والأخلاق الإنسانية، ففي جولة سريعة على القنوات التلفزيونية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تنقل شيئاً من نبض الشارع العربي، يلحظ المراقب شيئاً من الفرح الشعبي الخفي من خطاب بوتين الذي ضم فيه الأراضي الأوكرانية، والذي هو للحق والحقيقة خطاب تاريخي ولكن من وجهة نظر سلبية، فما هو التاريخ الذي سينجم عن مثل هكذا خطابات إلا المزيد من الحروب والقتل وتقييد حريات الشعوب..

لكن الواقع العربي المزري الذي نعيشه يعكس لدى المتلقي المُحبط المُنهزم من قبل حكوماته قبل أعدائه، يعكس شيئاً من العبث في تلقف خطابات بوتين بغض النظر عن مآلات أفعاله وجرائمه بحق الشعب السوري ولكن بوصفه بطلاً يواجه " الإمبريالية الغربية" المتمثلة في سياسات الولايات المتحدة الأميركية، وغالباً من يقود تلك الموجات الشعبية هم من رواد "حلف المقاومة" الذين يعتقدون أنهم يناصبون العداء للغرب، ولكنهم يتوسلونه يومياً من أجل الجلوس على طاولة مفاوضاته من أجل علاقات أفضل مع هذا الغرب، تشتعل مواقع التواصل بالاحتفالات والصور الملفقة التي تضع رأس فلاديمير بوتين على جسم هرقل أو سوبرمان مثلاً، وهو يحمل سيفاً يصرع به التنين الأميركي.. إلى درجة أن المخيال الشعبي العربي بات يطلق لقب أبي علي على الرئيس الروسي، وأبو علي هذا هو كناية عن البطل الشعبي المحلي، الذي يحقق المستحيلات ويقاوم الغزاة...

يبدو الأمر حمّالاً لشيء من العبث، فالقوم الشرق أوسطيون، محبطون وخائفون، مهزومون حتى النخاع، لا يمتلكون من شيم الرفض إلا تبني مواقف الآخرين حتى لو كان هذا الآخر رئيساً لدولة تحتل بلداً عربياً وتنهب ثرواته على مرأى من الجميع، في شوارع المدن تتنقل آلياته العسكرية التي تنسق مع المحتل الإيراني الذي يعيث فساداً في الأرض السورية، ولكن ذلك غير مهم، فاليسار السوري واللبناني يشيح بصره عن كل تلك الجرائم في مقابل الرفض الوحيد المسموح في معاداة وشتيمة أميركا وسياساتها، فقط.. دون التوسع قيد أنملة في توجيه النقد أو الرفض أو الغضب، على سياسات نظام طهران وولاتها على البلاد العربية.. وهذا إن ذكر، فإنه يعيدنا إلى نهاية الثلاينيات للقرن العشرين مع فرحة بعض الأوساط العربية بدعوات هتلر إلى اجتياح الشرق عبر ليبيا، حيث وصلت قوات رومل إلى ضواحي الإسكندرية في العلمين، فهللت ذات الأصوات الشعبية لما سموه أبا علي هتلر، الذي سينتصر لـ "قضايانا"، ويبيد أعداءنا، حتى لوكان العرب مُحتقرين ومذمومين من قبل أدبيات هتلر ذاته، ولكن اليأس والعبث والإحباط حينها كان مماثلاً لما نعيشه اليوم، فشل وخيانات راح ضحيتها الوطن والسيادة.. ولم يبق لنا سوى انتظار أبي علي هتلر بكامل بزته العسكرية الملطخة بدماء الشعوب ونظريات العنصرية والقتل والتمييز والموت ليكون مخلصاً...

ياله من يأس نعيشه، فبين أبي علي هتلر وأبي علي بوتين، لافرق، فالموت ذاته، والعنصرية ذاتها تجاهنا على الأقل، والخطاب الشوفيني الفاشي، والحجج ذاتها، وللأسف الوعي العربي هو ذاته، وردود الفعل العاطفية الخالية من المنطق هي ذاتها، يونس البحري الإعلامي العربي الذي كان صوته يصدح من راديو برلين العربي، مباركاً ومخاطباً الأمة العربية ومبشراً بوصول قوات هتلر لتنقذ أمة العرب من أعدائها، هو ذاته يصدح من أقنية التلفزيون العربية وهو يبارك ويبشر بقوات بوتين التي ستجتاح أوكرانيا، بعد اجتياح جورجيا وسوريا وكازاخستان والقرم، وتؤسس لخراب العالم من جديد، هذا العالم البوتيني الذي كنا من أوائل ضحاياه..

طموح فردي من قبل زعيم يخال له أن سيكون سيداً لهذا العالم الهش، يتلقفه ملايين من المهزومين في بقاع بعيدة في العالم، وكأنه المخلص الذي سيهشم وجه خصومنا.. كم نحن مهزومون، وكم يبدو "أبو علي" بطلنا الشعبي مشحوناً بأوهام وأحلام، لا تتعدى كونها زوبعة في فنجان يشربه دكتاتور في صباح بارد وهو ينتظر هاتفاً تفاوضياً من واشنطن.

تبدو المدرسة البوتينية في غسيل الأدمغة وهي قد استفادت من تجارب النازيين ومن بعدهم البلاشفة، في أهمية ووجوب السيطرة على عقول العامة، وعدم فسح أي مجال لأي مبادرات فردية تنال المجتمع، أو تطالب بتحديثه، نرى هنا حشوداً تتحرك بايعاز قيادي، نتابع منهجية إعلامية واحدة تذكرنا بدول استلهمت ذات التجارب مثل كوريا شمالية وسوريا وإيران وليبيا، ولكن أبا علي بوتين استطاع مواكبة العصر وتحديث أدواته، فكان مصراً على إنفاق الملايين على شبكة إعلامية تلفزيونية هي RT التي تبث بعدة لغات وتتوجه لشعوب العالم بهدف فرض وجهة النظر الروسية حول صراعاتها مع (حلف الديمقراطية)، مما لا شك به بأن بحر البشر الممتد من المحيط إلى حدود الصين، الهائم على وجه، من يصارع حكوماته، والظلم ليل نهار، سيكون مستعداً لمتابعة أي إعلام غير إعلامه الحكومي الهش الضعيف المهمش، ومن أجل ذلك بادر هتلر وغوبلز لبناء راديو برلين الحر، ومن بعده استوعب الجميع ضرورة غسيل أدمغة هذا البحر من البشر، فكانت ال BBC TRT DW FRANCE 24 CCTV والميادين والعالم، وغيرهم الكثير..

كيف لأمة لا تقدر على استنهاض شبابها ووعي شبابها أن تكون قادرة على مقارعة الآخر، وحماية مصالحها منه. من هنا كانت مهمات حكومات المنطقة وأنظمتها، من حيث تفريغ الطاقات الشعبية من محتواها، وإخصاء الحلم العربي بخروج جيل قادر على التغيير، وتسليم دفة البلاد والعباد للآخر.

كلمات مفتاحية