في طفولتي كنت أسمع برجل في ريفنا يُدعى أبا زاكي، وكان يُضْرَب به المثل في الكذب. ومن خلال ما سمعتُ عن أكاذيبه أستطيع أن أجزم اليوم أن فيها من شطحات الخيال ما يجعلها أقربَ إلى الطرائف منها إلى الأكاذيب، ولعل هذه السمة تخفف من كونها كَذِبًا صِرْفًا مذمومًا. على سبيل المثال، لم أسمع أنه كذب يومًا لأكل حق أحد. لكن سمعت الناس يتناقلون روايةً عن "بطولاته" الدونكيشوتية في إحدى المعارك العشائرية.
ملخص الرواية هو أن أبا زاكي كان شابًا عَزَبًا حين شارك في تلك المعركة، وبعد سنوات تزوج، فاكتشفت زوجته، وهي تصب الماء على ظهره، أن في كتفه نَصْلَ خِنْجَرٍ مكسورًا، ولم يدرك صاحبنا أنه طُعِن في تلك المعركة إلا حين استخرجت زوجته النصل المكسور – من دون جراحة أو تخدير أو تعقيم، طبعًا.
في الرقة سقطت الألف!
وإلى أن انتقلتُ إلى مدينة الرقة لدراسة المرحلة الثانوية، لم أكن قد سمعتُ باسم زَكي أو ألتقِ شخصًا بهذا الاسم إلا في الصف العاشر (لم أعد أتذكر إن كنت قد سمعت بالمفكر القومي زكي الأرسوزي قبل الرقة أم بعدها). على أي حال، في الرقة سقطتْ ألفُ زاكي وحلت محلها الفتحة. قلت في نفسي: لا شك أن أهل المدينة أدرى بالنطق الصحيح للاسم المذكور (لم أدرك حينها أن أهل الأرياف، بعكس أهل المدن، يميلون إلى إشباع الحركات القصيرة ويفخِّمون ما لا يجوز تفخيمه – فقد سمعتُ لاحقًا أناسًا في حلب يقولون "مَزُوت" بينما لو سمع أهلنا أحدًا من أبنائهم يقول غير "مازوط" لعدُّوه "حَضَريًا" مُخَنَّثًا).
حدث ذلك التحول في خريف 1980 في ثانوية الرشيد بالرقة. فقد كان أحد زملائنا اسمه ماجد زَكي، وهو ابن مهندس زراعي مصري يعمل في مشروع حوض الفرات. كان ماجد، وهو أول مصري أراه في حياتي، من الطلاب الأوائل على صفه، وكان فوق ذلك شديدَ الحياء ومنطويًا على نفسه إلى حد ما. وفي الجامعة سمعنا باسم الشاعر المصري أحمد زَكي أبو شادي (1892-1955) وبالشاعر السوري المهجري زَكي قنصل (1916-1994). وهذا الأخير حضرتُ له أمسيةً شعريةً بالمكتبة الوطنية بحلب في الثمانينيات، وكنت قبل ذلك أظن أن كل شعراء المهجر قد ماتوا منذ زمن بعيد. وكنت أعلم أن كل شعراء المهجر مسيحيون وتساءلت: كيف يكون اسم هذا الشاعر زكي محمود قنصل؟ أليس محمود اسمَ مسلمٍ؟ ليس بالضرورة، فيما يبدو. وحين بدأ نجم الممثل السوري زَكي كورديللو يلمع في عالم الفن، تساءلت إن كان – بناءً على ما أحدثه اسم عائلته في مخيلتي – من أصل إيطالي (وإلى يومنا هذا لم أستطع حسم تساؤلاتي: أهو من أصل إيطالي أم كردي أم تركي؟). ثم بعد أكثر من عقدين قرأتُ قصةً جميلةً جدًا لكاتب ساخر من محافظة دير الزور اسمه ثائر زَكي الزعزوع. ومن شدة إعجابي بالقصة ترجمتها إلى الإنجليزية، وضمَّنتُها في كتابي عن الترجمة الأدبية الذي نشرته جامعة الطائف سنة 2011. وصار ثائر صديقي – في العالم الافتراضي فحسب، مع الأسف. باختصار، في هذه المرحلة استقر الاسم زَكي – بالفتحة لا بالألف – في مخيلتي، وأزاح منها ما علق فيها من رواسب سلبية خلَّفتها مغامرات أبي زاكي الدونكيشوتية.
في "باب الحارة" كانت الكَسرة
ثم أطلَّ علينا مسلسل "باب الحارة" عام 2006 وأخواته من المسلسلات الرديئة عن البيئة الشامية، وإذ بالزاي في اسم زَكي من جملة ما كُسِرَ في ذلك المسلسل. كرَّست شخصيةُ الداية "إم زِكي" (التي أدت دورها هدى شعراوي) كسر هذه الزاي. ربما هكذا يُنطَق الاسم في الحارات الشعبية الدمشقية وبعض المدن السورية الأخرى، لكني لا أستطيع أن أغفر لمن كسر زاي زَكي. فبعد أن سقطت ألف زاكي التي أَلِفتُها في مرحلتي القَرَوية، وحلت محلها الفتحة اللطيفة في مرحلتي الحضرية، لم أعد أتقبل أي انكسار أو نكوص يطرأ على هذا الاسم. فقد شعرتُ بخيبة الأمل والحسرة على تشويه هذا الاسم الذي اقترن في مخيلتي بكل ما هو راقٍ وجميلٌ. فنحن نتغذى على أوهام تصوراتنا، ونتألم حين يأتي أحد ويهدم هذه الأوهام الجميلة. هكذا فجأةً وجدتُ زَكي قد انحدر – لفظًا ودلالةً – إلى عكس ما كان لفظه النبيل قد تركه في نفسي من تصورات إيجابية شاعرية. بل لا أبالغ إن قلت إن كسر الزاي هنا كان يثير في نفسي شيئًا من الاشمئزاز والقرف. بل حين كنت أسمع لفظة "زِكي" يُخيَّل إليَّ أنها تشير إلى غُلام مُخَنَّث!
كنتُ كذلك الرجل الذي تزوج امرأةً اسمها فِتْنَة ولم يرها إلا يومَ زفافها إليه. وكان خيالُه قبل يوم الزفاف قد نسج لها صورةً من الجمال والإغراء والفتنة – كل ذلك بسبب ما يوحيه اسمها. وحين زُفَّت إليه، وجدها دميمةَ الخِلْقةَ، فأُصيبَ بصدمةٍ شديدةٍ، واغتمَّ لهذه القِسْمة النَّحِسة، فلم يقرَبْ عروسه. بل انتظر حتى نامت، فحزم مَتاعه، وتسلل هاربًا من البيت. رأته أمه، وسألته:
- إلى أين؟
- مسافرٌ، يا أمي.
- وفِتْنَة؟
- نائمة، ولعن الله من أيقظها!
كنت قد تخليتُ عن ألف زاكي عن طيب خاطر حين انتقلت من القرية إلى المدينة، واكتفيتُ بالفتحةِ بدلاً منها. لكنني لم أكن مستعدًا لقبول ما أراه إسفافًا. لعلَّ تمسكي بفتحة الزاي يمثل طريقًا وسطًا بين ريفيَّتي التي لم أرغب يومًا في التخلي عنها تمامًا وبين شخصيتي المدينية – وسنامُها الحياةُ الشاميةُ بالنسبة إلى أي سوري – التي لم أرغب يومًا في الإيغال فيها. لا شك أيضًا أن موقفي هذا يحمل حنينًا دفينًا إلى بيئتي الأولى، إلى شخصيتي الريفية وما يعني ذلك من تمسك بشيء من الخشونة مخافةَ الانحدار إلى الميوعة. بقي أن أذكر أن بث مسلسل "باب الحارة" على القنوات الفضائية تزامن مع عملي في المملكة العربية السعودية (بدايةً من عام 2002). وبلا شك كانت بيئتي الجديدة مغايرةً لما عشته في حلب واللاذقية – وقريبةً من بيئتي الرقِّية العشائرية – فبدأتُ شيئًا فشيئًا "أتَسَعْوَد" في الظاهر، ولكنني في الواقع كنت أستعيد في اللاوعي شخصيتي الفراتية الضائعة/ التي ضاعت من جرّاء العيش في عدد من مدن سوريا الكبرى.