آلية التفكير معطوبة

2021.06.16 | 06:09 دمشق

zh9.jpg
+A
حجم الخط
-A

عشر سنوات من الثورة لم تنتج قاعدة فكرية جديدة، ولم تغيّر في آلية التفكير القديم، عشر سنوات ولم نصل إلى مشروع من إنتاجنا، ولم نصل إلى فعلٍ جماعي واعٍ، ولا نملك رؤى واضحة لقضيتنا، أو استراتيجية لتحقيق أهداف ثورتنا، إن سياسياً، أو عسكرياً، أو اجتماعياً، أو ثقافياً، أو...

مازالت أمورنا خبطَ عشواءٍ، عشر سنوات ولم نحول ثورتنا ضد نظام طاغٍ ومجرم إلى قضية محقة وعادلة تجاه الأمم، إننا ننتظر، ننتظر فقط، ننتظر على عتبات وأبواب الدول الكبرى، ماذا يقررون؟ متى ينتهون؟ متى يتفقون؟ على مصالحهم لا مصلحتنا، على تجزئتنا لا وحدتنا، فلننتظر إذاً، ولبئس الانتظار، وإياكم أن تقولوا طال الانتظار؟ فهذا غير منطقي وغير عقلاني، نعم إنه كذلك، فمن ينتظر حلولاً من الآخرين، عليه ألا يطرح هذا السؤال، وللذين يسألون عن عدالة، خصوصاً من يسأل عن عدالة الدول وإنصافها وأخلاقها، فالدول لا تنطلق من هذا، وإن حصل فهو لتحقيق مصلحة أيضاً، لم تتمكن من تحقيقها بطريقة أخرى، هنا فقط تحضر الأخلاق، وهنا أيضاً علينا أن نفهم، ويجب أن نفهم بكل تجرد، أن هذا هو مقياس الدول، إنها المصلحة، وتبادل المنفعة، هذا هو عالم اليوم، وتحقيق المصلحة يقتضي أشياء كثيرة، يقتضي القوة، يقتضي المساومة وقلة الأخلاق والضمير، يقتضي العدوان.. آخرها الأخلاق، هذا ما نعيشه ونعاينه اليوم، فانتظار تحقيق الأماني من الآخرين ضرب خيال، ومن نظر في العواقب سلم من النوائب.

وما نيــلُ المطالـبِ بِالتمَنّــي       ولكن تُـؤخَذُ الـدنيا غِلابا

وما استَعصى على قومٍ مَنالٌ   إذا الإقدامُ كانَ لهم رِكابا

انعدام التفكير الصحيح والجهل بالاستقراء والاستنباط السليم حتماً نتائجه كارثية، إن على الفرد وإن على المجتمع وإن على الدولة

وبناء عليه فهل نفكر ونبدأ البحث عن مصلحتنا بعيدا عن مصالح الآخرين، أو إذا شئتم بما يحقق مصلحتنا ومصلحة الآخرين، على مبدأ (الدنيا مصالح)، نحن أحجمنا عن كل شيء، حتى ما عاد بيدنا شيء، نعم هنا وصل بنا المستقر، وهذا يؤكد أن جملتنا المجتمعية ما زالت عليلة، لا ينشرح لها صدر، ولا تجود إلا بمعنى الحياة الحطيمة، لأن مفرداتها سقيمة ومعانيها واهية، خاملة كسولة، نعم إن هذا الدمار والخراب، والدماء التي جرت وما زالت تجري، هي قدر محتوم على هذا الشعب، ربما يكون قابلاً للتفسير والتأويل والفهم، لأننا نواجه عدواً قال منذ البداية: الأسد أو نحرق البلد، لكن من غير المقبول ذاك الدمار الذي أصاب العقول والقلوب ـ والمرء بأصغريه يا سادة ـ التي مرت أمامها مختلف المشاهد، ورأت أجناساً من الناس، دون تحقيق موعظة مما نشاهد، ودون إدراك لأمور كثيرة في رواية الحياة العظيمة، التي عشناها رأي عين، بمكانها وزمانها وأحداثها، التي لم يحكها لنا قاصٌ أو راوٍ، ولم نقرأها في كتاب، لكن تلك الحقيقة لم تصدم عقولنا بما يستدعي المراجعة وتقليب النظر والفكر، وتحكيم العقل والمنطق، ما زلنا نتعامل مع الأمور ونحاكمها عبر انفعالاتنا حباً أو كرهاً أو غضباً أو.. وهذا لن يقودنا إلى نتائج محمودة قولاً واحداً، أحوج ما نكون اليوم إلى إعمال العقل والنظر والفكر، والتحليل الدقيق للوصول إلى نتائج يقبلها المنطق، وتوائم الواقع، ربما يقول قائل إن الثورة السورية، أريد لها الفشل عربياً وإقليمياً ودولياً، على المستويات والصعد جميعها، إن سياسياً وإن عسكرياً وإن إعلامياً.. إلخ، وقد صدمت تطلعات شعبنا بهذه الإرادات، أقول: صحيح، ولكن أيضاً علينا أن نعرف أن هذه العذابات هي على قدر إرادتنا، وهناك هوامش كثيرة يمكننا العمل عليها، وما يهمنا في هذا المقام هو التفكير الصحيح السليم، وترك ما علق في الأذهان من شوائب وطفيليات، وهذا هو التغيير المطلوب والمهم، وهذا هو الإنجاز الحقيقي، لأن انعدام التفكير الصحيح والجهل بالاستقراء والاستنباط السليم حتماً نتائجه كارثية، إن على الفرد وإن على المجتمع وإن على الدولة، فالتفكير الخاطئ يجلب كثيراً من المآسي والنزاعات والدمار والشقاء، على نحو يفوق ما نتصور، فالتعصب والتزمت والانغلاق والجهل، ظواهر سببها الرئيس تعطيل العقل والفكر.

صحيح أن حجم ألم ومعاناة شعبنا لا تستوعبه جغرافيا، ولا تحفظه قماطِرُ، إنها مأساة العصر، لكننا مازلنا في الوجود، ونقف على أقدامنا، وإنني على ثقة أننا نستطيع أن نجعل من جلبة الآمال والأماني التي نؤمن بها، ستراً لضجيج آلامها وأتراحها.

فالمسارعة المسارعة بخطوات عملية، تعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، وتضعنا على جادة الصواب، وهذا يتطلب فهما للأصل، واتصالاً بالعصر، فالأمور ليست بمعزل عن التاريخ، فكل مشكلة لها أصل وجذر، وفهم هذا الأصل يساعد في معالجة مشكلات العصر، فبعضهم مازال يرى أن المشكلة هي بين نظام مستبد دكتاتوري وبين شعب يطالب بحريته وكرامته فقط، ضمن مساحة جغرافية تسمى سوريا، ولو كان الأمر كذلك لتركونا (النظام والشعب) إلى مصيرنا، القضية أكبر من ذلك بكثير، كل الأطراف التي تدخلت بأي شكل من الأشكال، تدرك حق اليقين، أن هذا التغيير الذي يريده هذا الشعب إذا ما حصل عليه فإنه مستقبلاً سيغيّر المنطقة برمتها، إن لم يكن وجه العالم، والعالم كله يعرف عين اليقين ما معنى أن تكون دمشق ومعها بغداد أيضاً ـ بوصفهما حاضرتين عريقتين ـ سيدتين حرّتين، من هنا تبدأ الحكاية، إنهم يعرفون التاريخ ويفهمونه أكثر جيداً، فضرب هذه المنطقة بكاملها هدف يمكن أن نطلق عليه صفة العالمية، ومن هنا يتفقون جميعاً على تمزيقها وتفتيتها أرضاً وشعباً، وتغيير جعرافيتها وديغرافيتها، لضمان عدم قدرتها على النهوض مستقبلاً، لعلمهم أن أهل هذه الديار هم وشِيجَةُ قومٍ يرتبطون ويتوحدون ـ إذا ما أتيحت لهم الفرصة ـ لأي قضية تمسهم دوناً عن العالمين، وبناء على هذه المعرفة علينا أن نعلم جميعاً، أن القيم التي ثرنا لأجلها وطالبنا ـ وهي محقة وحق لنا ولكل آدمي ـ في تحقيق الكرامة والعدالة، ودفعنا ثمناً باهضاً ومازلنا ندفع، لا تؤطر بزمن، ولا تسقط بتقادم عهد، لكنها تحتاج على الدوام دفعا للأمام، من خلال الإيمان بها أولاً، والاستمرار بطلبها حتى تحقيقها.

أَخلقْ بِذي الصبرِ أنْ يحظى بحاجتِهِ   ومدمنِ القَرعِ للأبوابِ أنْ يَلِجَا

لا مناص من نفض غبار التعب، وإكمال المسيرة بقوة وحزم، وتجاوز الكبوات والنكسات، وتحييد الوصوليين والانتهازيين، وكل مَن فسد وأفسد في المعارضة

فلا بد من إعادة ترتيب الصفوف وتنظيمها سياسياً وعسكرياً واجتماعياً لزيادة الفاعلية والضغط والـتأثير في كل محفل، من خلال تشبيك الأفراد والجماعات والهيئات والمنظمات بعلاقات تحدد أهدافها ورؤاها المستقبلية بوضوح ودقة، بمقدورها التحليل وتقديم الحلول، فالمستقبل إنما هو فعل حيٌّ على الأرض، وليس ظرفاً زمانياً ميتاً لا فعل فيه ولا حدث، فلا مناص من نفض غبار التعب، وإكمال المسيرة بقوة وحزم، وتجاوز الكبوات والنكسات، وتحييد الوصوليين والانتهازيين، وكل مَن فسد وأفسد في المعارضة، فعلى الثورة أن تنظف نفسها، وتسقط كل من تسلق على ظهرها، وتسرج خيلها من جديد، فلكل جواد كبوة، فإن فترت الهمم، وضعفت العزيمة، فهذا لا يعني الهزيمة أبداً، فالأيام دول، والدول أيام ودهر، والدهر قُلَّبٌ، والليالي حُبالى، فـ "إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ"، لكن الفارق هو أنكم "وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ".