آخر الرجال في حلب أو دروس في تعليم الحياة

2018.10.05 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يمنحنا فوز فيلم المخرج السوري فراس فياض "آخر الرجال في حلب بجائزة الإيمي عن أفضل فيلم عن الأحداث الجارية فرصة لمحاول ملاحقة مسارات الألم السوري من مدخل التوثيق.

يجد الفيلم نفسه منذ البداية أمام جدال مع نوعه وطبيعته، فكيف يمكن أن يوثِّق ما لا يوثَّق؟ وكيف يدخل في هذه اللعبة دون أن يخاطر بخيانة موضوعه نفسه؟ وكيف يخرج التوثيق من كونه عرضا للوقائع إلى أن يتحول إلى معنى خالص؟

يطرح الفيلم على نفسه هذه الأسئلة محاولا أن يبني عالم المعنى الخالص، الذي لا يشكل التوثيق سوى حجته وحسب من عين السمكة الذاهلة التي يعتمدها المخرج مقدمة للفيلم ومُفتَتَحاً رمزياً لخطابه ينفتح ثقب المجزرة الأسود جاذبا إلى دوامته المهلكة كل شيء.

يتراكم الحدث في قلب المجزرة فالعنوان "آخر الرجال" يستبطن فكرة تعلن أن الحكاية موصولة دائما بنهايتها، أو أنها ليست سوى خبر عنها.

فالعنوان "آخر الرجال" يستبطن فكرة تعلن أن الحكاية موصولة دائما بنهايتها، أو أنها ليست سوى خبر عنها

الرجال الأخيرون هم الناس الأخيرون في المدينة يصرون على البقاء فيها والقيام بدورهم في الدفاع المدني وإنقاذ من يمكن إنقاذه، لأن العالم غير قابل للوجود خارج مدينتهم حلب.

لا موت في حلب يقول ناس الفيلم بل إن الموت هو ما يحدث في البلاد البعيدة وفي المنافي التي تقتل. يقارب الفيلم موضوع رغبة الفرار الذي يبديها أبرز شخصياته خالد حرح الذي يتخذ قرار الهرب إلى تركيا ثم يعدل عنه طارحا سؤالا جوهريا يقول لمن سنترك المدينة؟ هل نتركها للغريب.

الغريب هو حامل الموت وصاحبه والبقاء فيها هو النجاة الوحيدة الممكنة من سطوته التي يستجلبها هذا الغريب من خارجها.

يجتهد الفيلم في تقديم الدلائل الكثيرة على وجاهة هذا الخطاب. يعرض مشهدا اشتهر كثيرا بعد خروج الفيلم إلى النور في العام 2017 وهو مشهد إنقاذ طفلة رضيعة من بين أنقاض مبنى مهدم، ويرينا ابنة خالد رجل الدفاع المدني تشاهد مقطعا مصورا لهذه العملية على الهاتف مخاطبة والدها بقولها "أنت فعلت ذلك أنت بطل".

نعلم علم اليقين أن هذه الطفلة قد باتت ناجية فعلا، وأنه لا يمكن لعالم موت الغريب أن يخترقها، ولا أن يكون مؤسسا لوعيها. البطولة وجدت تعريفا ثابتاً في قلبها وروحها يرتبط بالإحياء وإنقاذ الآخر، وبأنها فعل حب مفتوح لا يمكن أن تحتله مهما جرى لغة الأسد الوحشية وخطابها.

البطولة وجدت تعريفا ثابتاً في قلبها وروحها يرتبط بالإحياء وإنقاذ الآخر، وبأنها فعل حب مفتوح لا يمكن أن تحتله مهما جرى لغة الأسد الوحشية وخطابها

ينجح رجال الدفاع المدني في بعض المهمات ويفشلون في كثير غيرها، ولكن خصوصية عملهم تكمن في إخراج الضحايا من مجهولية الجثث الفاقدة للملامح أو الأشلاء المتناثرة والمتشظية، وغير القادرة على تركيب إحالة واضحة إلى سيرة أو حياة، إلى وضعية الناس. يعطلون بهذا الفعل الهدف النهائي للبراميل المتفجرة التي تفتت الناس محاولة محو أسمائهم وصفاتهم، ودفعهم للإقامة الجبرية في حالة الأشلاء.

 يحمل رجال الدفاع المدني الأشلاء طالبين من الناس التعرف على أصحابها من أي علامة يمكن تذكرها، وحين يتم نسب يد المقطوعة إلى "أبو علي" تغادر الأشلاء صفاتها، وتتحول إلى شخص محدد.

يسرقون مرحا صاخبا يعيدون من خلاله إنتاج طفولاتهم. يلعبون الكرة، ويطلب أحدهم من زميله تنبيهه عند الساعة السادسة لأن هناك عرسا قد وعد بالمشاركة فيه. يقيمون حفلات غناء تبدأ من تكرار القصائد القديمة لتصبح تأليفا خالصا لأغنيات جديدة يسخرون بها من الأهوال التي تحيط بهم ومن أنفسهم. يتحولون إلى كائنات تقيم في الهزل المتشرب بالمأساة، ما يفتح المجال أمام تصوير لحظات نادرة من صلابة هشاشة تجد بيانها في خطاب الصداقة الذي يوازي العالم ويوازن كل شيء فيه ويمنعه من السقوط.

لا شي يستطيع أن يسلبهم العالم، لأنه لا يقع خارجا عنهم. إنه عالم محمول إذا صح التعبير وممتَلك بالكامل، وتزداد عناصره ثباتا وتماسكا في كل لحظة.

إطلالة على المدينة المدمرة تظهر كل شيء بوصفه عراء خالصا ونوعا من الأحشاء المنكشفة. واجهات البنايات متطايرة والشرفات معلقة في الهواء تسقط باللمس، ولكن في داخل تلك البنايات ما زال هناك رجل عجوز يبحث في درج ما عن شيء ما تحت أنظار الجميع.

الخاص أصبح عاما، والدمار حقق وظيفة تناقضه تماما فبدل أن يغلق المدينة إذا به يفتحها، فيصبح كل ما فيها آيلا للتشارك. لقد أخرج العين من حدود الحاسة ليجعلها بصيرة وتأويلا، فالعجوز الذي يعرف أنه منكشف أمام نظرات الآخرين، يرحب بها بوصفها تشاركا في معنى البقاء في المدينة. الاصطدام بنظرة الآخر في هذا المقام تحمل معنى الإحياء في حين أنها تحمل عادة سمة تقترب من التمويت.

لم يحاول المخرج الاحتماء بالموضوع لتبرير تراخ فني بل خرج الفيلم متميزا بمتانته الفنية وبنيته الإخراجية المتماسكة وموسيقاه التصويرية

لم يحاول المخرج الاحتماء بالموضوع لتبرير تراخ فني بل خرج الفيلم متميزا بمتانته الفنية وبنيته الإخراجية المتماسكة وموسيقاه التصويرية، كاشفا عن تعامل جريء مع إصراره على تصوير ما نندفع إلى إشاحة البصر عنه.

إن مشهد جنازة خالد الذي توفي خلال قيامه بمهمة انقاذية هي عين ما لا تحتمل مشاهدته، ولكن المخرج يضعنا أمامه بكل قسوة ليفهمنا أن توثيق موته هو في الآن نفسه توثيق نجاته من الموت، وتحوله إلى جزء من سيرة المدينة وناسها.

لقد أجبرنا فراس فياض على النظر في عين القط الكسيح وفي حركة الأسماك الذاهلة. تعامل مع المدينة المدمرة وناسها بوصفها حقيقة انكشف الحجاب عنها أمام بصر الكاميرا الحديد، طالبا منا الانتباه إلى حدث فريد وغير قابل للتكرار وهو حدث الوقوف في قلب معنى خالص لا يقبل أي تأويل.

 فوز هذا الفيلم بجائزة عالمية يجبر العالم على فتح سؤال المدينة ومصيرها في كل أصقاع الأرض، ويؤكد بصرامة تامة أن توثيق تجربة رجال الدفاع المدني الأخيرين الباقين في مدينة تتعرض للإفناء الممنهج، يهدد بأن تكون مدينة حلب خاتمة المدن وفكرتها، وأن تكون كل المدن الكبرى في العالم قد سبقتها إلى الفناء ولكن الخبر لم يعلن بعد.