خالد عبود ونهاية نموذج المثقف المهرج

2020.05.10 | 00:02 دمشق

lmnrc.jpeg
+A
حجم الخط
-A

تنتابُنا شكوكٌ، نحن السوريين، أنَّ اللا شيء، يَطفِق أحياناً بالتآمر مع الشيء، واللا يقين ربما تحالف من وراء ظهورنا مع اليقين. لا يكاد يمرُّ يومٌ إلا ويتداعى جدارٌ، لينهض جدارٌ محله. نحن في هذه الأيام نتابع عن كثبٍ النهايات؛ نهايات الديكتاتور الإله، والسقوط المدوي لحقبة الإبادة المظلمة. كما نشهد مع سقوطه أيضاً، رحيلَ المثقف النبي، والسياسي الحذاء، والمؤيد الهذائي المضطرب عقلياً، والمعارض الموظف، والثورجي التاجر، والمقاتل أمير الحرب، والإعلامي الكذّاب، والصحفي الانتهازي، ورجل الدين الخفيف العقل، وتجار الحروب مصاصي الدماء، وكلَّ شواهد سنوات الانحطاط؛ تلك الحقبة الشاحبة التي حُقِنَت كالدُّمَّل، في جلد الأسدية الموشكة على التهافت والاندثار.

ففي الوقت الضائع، ما أكثرَ من يندم أو يشمت، أو يسترجع أو يفرح أو يتظاهر بالفرح، أو يخوض الغمرة مع الخائضين، أو يعتزلُ مع المعتزلة.

يقول "كوندورسيه"، وهو من مفكري الثورة الفرنسية وصناعها المؤثرين: (قدرة الدجال أو المشعوذ على تضليل الجماهير، أشدُّ من قدرة العبقري على إنقاذها). وحين يصبح الهُرَاء وجهة نظر سياسية عالية الاعتبار، غالباً ما تخفي التفاهة وراءها حقائق كثيرة مهمة، وإن تكن غير مستبانة. والمشعوذ، أو الحاوي، قد يكون ظاهرة ثقافية عابرة للحدود. إنسانية بمعنى ما، وغير مخصوصة بحالة أو ببلد أو بثقافة معينة. هذا ما يُطلق عليه في الدراسات الأنثربولوجية بوضعية العتبة/ الحد الفاصل بين شيئين. وباللاتينية يحيل مصطلح (liminality) إلى الهامش أو الحافة. أو ما يسمى في مصطلحنا الدارج: بين بين.

نحن في هذه الأيام نتابع عن كثبٍ النهايات؛ نهايات الديكتاتور الإله، والسقوط المدوي لحقبة الإبادة المظلمة. كما نشهد مع سقوطه أيضاً، رحيلَ المثقف النبي، والسياسي الحذاء

الحاوي أو المهرج، هو حدٌّ فاصلٌ بين عتبتين، كلتيهما معروفتين ومفهومتين. على سبيل المثال، نحن نعرف من ثقافتنا الشعبية والمدونة المكتوبة، أن هنالك دائماً، ما يتجاوز ما هو معروف ومستقر في الأذهان، إلى اللامحدود واللا مُتعين. وكمثال يوضح الفكرة، فإننا لا نتعامل مع شخصية "جحا" التاريخية، كما جرى تعويمها وتعديلها كثيراً عبر تاريخ طويل، لا بصفتها شخصية في غاية الذكاء، ولا هي شخصية في منتهى الغباء. لا هي فاضلة تماماً ولا هي فاسقة تماماً. تثيرُ الإعجاب بحكمتها، مثلما تثير الغضب بحماقاتها. وتصلح للضحك والبكاء، ولانعدام اليقين والرجاء. (أو، كما يقول المتنبي: ضَحِكٌ كالبكا..). إذ يمكن نسبة أي شيء إليها، بوصفها مُستوعِبٌ يتسعُ لكل ما لا حدود له، ولا تؤطره نهاية. من هنا فإن الحد الفاصل (la limite)، هو فاصل فقط لكل ما هو مفهوم ومحدود ومتعين.

اللامحدود، بطبيعة الحال، طقسٌ من الطقوس للعبور إلى المعنى المفهوم. والطقسية كما يذهب بحَّاثةُ الأنثروبولوجيا، ترافق العبور في مراحل الانتقال؛ فالولادة، الختان.. والانتقال إلى المراهقة ثم الشباب، ثم الانتقال من مرحلة دراسية إلى تخرج واختصاص، كلها انتقالات مقرونة بطقوسها المناسبة. بهذا المعنى يمكن فهم كلمات مقالة "العبود"، بأنها انتقال إلى طقوس/ أو مرحلة سقوط النظام، وركله بأحذية الأقوياء الذين استقوى بهم سنين طويلة.

وبهذا المعنى أيضاً، فإن مقالة فيلسوف التفاهة والوضاعة، الناطق بلسان الأسدية، "خالد عبود"، الذي يُحْمَلُ عليه موصوفُ أمين سر مجلس الشعب السوري، والتي جاءت تحت عنوان: ماذا لو انقلب الأسد على بوتين؟ كذا..!! وبصيغة الاستفهام الإنكاري والاستفزازي، الذي يخدش شرود القارئ غير المُسْتَفَـزّ والمتوتر، ويحرك سكونه، فيصبغه بصبغة من الاهتمام الذي يغصب على متابعة ما بعده.

العبور وراء مضمون العنوان ليس صادماً فحسب، بل لعله مُسَلٍّ أيضاً. يحمل في طياته من الفكاهة بقدر ما يحمل من الجدية. ويلعب على سحر الشعوذة الكلامية المنتقاة الألفاظ، (والمنقحة بصيغتها النهائية مخابراتياً، لدى أعلى مستويات صنع القرار لدى نظام الأسد).

ما زلنا نتذكر جميعاً عبارات الرئيس القذافي ـ قبل سقوطه بأيام قليلة، وإعدامه ضرباً بالأحذية والركلات، بعد استخراجه من مخبئه في قناة للصرف الصحي ـ والتي لاتزال تُدَوِّي في أسماعنا حتى اليوم: ( أنا أستطيع أن أحرك كلَّ أحرار العالم وثوارهِ، بإشارة من يدي، وأدعوهم للتحرك.. فمن أنتم؟ كلُّ الثائرين في هذا العالم معي.. وهم ينتظرون إشارة مني.. إلخ..). فلنضرب صفحاً مؤقتاً عن تلك السلسلة الطويلة الخرقاء، من الجمل المتسلسلة التي أغرق بها "العبود" مقالته، بتوطئة كل جملة أو مفتتح سطر جديد، بعبارة: (ماذا لو..).

يهمُّنا من هذا القدر من الكلمات الهوجاء، والمرسلة على عواهنها التي استخدمها "العبود" ـ الذي يكادُ يُعدُّ نموذجاً لـ "المثقف والسياسي الحذاء" في النظام الأسدي ـ بما يمتلكه من رغوة تعابير مُتَـوهَّمة مجنونة، ومصطلحات فارغة خرقاء، والتي قد لا يستسيغ أشدُّ المرضى الذُهانيين، أن يسترسلوا في مطلق التخيلات الضالّة وراءها. وذلك في استرسالات نمطية معروفة لدى الشخصيات الزَّوَرِيَّة التي تجاوزت عتبات الجنون، وفي حال غياب الواعية الشعورية في عتمة الهذيانات والأوهام.

من المفيد أن أصرف الانتباه قليلاً، إلى نموذج واحد تمَّ دَسُّهُ بعناية مخابراتية، وسط هذا الهذر الكابوسي المستغرِق والمخيف.. لنتأمل في عبارة "عبود" التالية، محاولين تفحصها من جديد: (ماذا لو غضب الرئيس الأسد من بوتين وجرَّهُ إلى تيه البادية السوريّة، وأغرقه في حرّها ورملها، وأطبق عليه هناك، بعد أن فخّخ له ما فوق الأرض وما تحتها؟!!!.".).

يريد "العبود"، أو الموجه المخابراتي الذي كان يصوب له عباراته، طائلاً من هذه العبارة، أن يقول: (داعش نحن صنعناها، فهي منّا، من منتجات مصانعنا الاستخباراتية، إن كنتم لا تعلمون. ولقد جرَّبناها واختبرنا مفخخاتها فوق الأرض وتحت الأرض. فإن كان "بوتين" لا يعلم ذلك ـ وهو يعلم ذلك بكل تأكيد ـ فليجربْ، أو ليحذرْ حتى لا يُضْطَرُّنا أن نضربه بسيفها، بعد أن نستجرَّهُ إلى تيه البادية السورية.. ثمّ نفخخَ له ما فوق الأرض وما تحتها).