من نخيل البصرة إلى زيتون إدلب 

2018.09.15 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الأيام الماضية عادت ساحات محافظة إدلب بمدنها وقراها إلى الزمن الجميل، زمن الحراك المدني الثوري في الأشهر الأولى من الثورة السورية، بعد شهر آذار في عام 2011.

تدفق عشرات الآلاف من المدنيين إلى الساحات في الجمعة الماضية  وهم يحملون علم الاستقلال بنجومه الحمراء الثلاثة، مع اختفاء واضح للرايات السوداء والمسلحين المتطرفين وأجهزتهم الأمنية، وباستثناء حادثة واحدة، كانت في ساحة السبع بحرات في إدلب، عندما حاول أحد المتطرفين من جبهة النصرة، أن يخطف علم الثورة من المتظاهرين تحت تهديد السلاح، لكن المدنيين الواثقين من ثورتهم، سرعان ما أخذوا منه سلاحه، وطردوه من الساحة التي شهدت ولادة مظاهراتهم الأولى منذ سبع سنوات.

هناك من كان يراهن على إرادة المتظاهرين، ورهانه فشل خلال هذه المظاهرات الحاشدة، فبعد سيطرة المتطرفين على محافظة إدلب في شهر آذار 2015 ، مرّت أكثر من ثلاث سنوات ونصف، تفننت خلالها جبهة النصرة بالتضييق على الأهالي، في حياتهم وأعمالهم وأرزاقهم وحتى لباسهم.

وكان رهان بعضهم على أن الناس في إدلب، سوف ييأسون ويميلون لرجوع النظام، كقدرٍ نهائي لهم في هذه الحرب، وعلى أن النظام قياساً مع الفصائل المتشددة، يظل أفضل الموجود في مستنقع الحرب السورية، وأحلى المُرَّين.

بعد سيطرة المتطرفين على محافظة إدلب في شهر آذار 2015 مرّت أكثر من ثلاث سنوات ونصف تفننت خلالها جبهة النصرة بالتضييق على الأهالي في حياتهم وأعمالهم وأرزاقهم وحتى لباسهم

سرعان ما خاب هذا الرهان على الأهالي والمدنيين والنازحين في إدلب، بعد تدفق عشرات الآلاف منهم، مع أعلامهم ولافتاتهم وشعاراتهم وأغانيهم وأهازيجهم المنحازة للحرية، في مدن إدلب وأريحا وجسر الشغور وكفرنبل ومعرة النعمان وسراقب، وقرى أخرى في يوم الجمعة 7/9/2018 ، التي أطلق عليها الناشطون تسمية ( جمعة خيارنا المقاومة ) وحالياً يتم التحضير لمظاهرات ضد النظام للجمعة التالية، مظاهرات لا تقل أهمية عن مظاهرات جمعة (خيارنا المقاومة) .

هذه المظاهرات التي تعيد الثورة إلى ألقها القديم في زمنها الجميل، إلى سيرتها الأولى، قبل ظهور الفصائل المتشددة، وهذه المظاهرات الهائلة تدل على أنه لا يوجد بيئة حاضنة للفصائل المتشددة في مناطق الثورة، كما حاول ويحاول إعلام النظام الترويج له، ليبرر قصفه وتنكيله بكل مكان يرفضه وينبذه بعد عقودٍ من الاستبداد.

كما أن هذه المظاهرات تحمل رسالة مهمة إلى العالم، فحواها: هذا المكان ليس للفصائل المتشددة وراياتها السوداء، هذا المكان للثورة، وقد خطف المتطرفون جزءاً منه، لهذا، يجب حماية هذا المكان، ليس من جبهة النصرة فقط، وإنما من قوات النظام السوري أيضاً، لأن جبهة النصرة والنظام السوري وجهان لنفس العملة.

التجهيزات المحلية في إدلب وريفها لم تشمل المظاهرات فقط، إنما تلتها في هذه الأيام تدريبات للأهالي، على كيفية التعامل مع القصف الكيماوي، في حال لجأ إليه النظام، وحفر الغرف الصخرية تحت المنازل، لتحمي المدنيين من القصف المتوقع والذي بدأ على بعض القرى. وأيضاً، تخزين الطعام والمياه، وبهذا قال الأهالي كلمتهم في مظاهراتهم السلمية الحاشدة، وأفشلوا كل رهان لا علاقة له بقرار التغيير نحو الحرية، وعدم المساومة عليه، مهما كانت الظروف، والتجهيز قدر الإمكان لمعركة غادرة ينوي النظام أن يشنها على آخر ساحات الحرية في البلاد، من هنا، من شمال سوريا، حيث التاريخ له نكهة الزيتون ولون الزيتون.

هذه المظاهرات التي تعيد الثورة إلى ألقها القديم في زمنها الجميل إلى سيرتها الأولى قبل ظهور الفصائل المتشددة

في الوقت ذاته، من هناك، من جنوب العراق، ومن عاصمة النخيل على الصعيد العربي، تدفقت مظاهرات الأهالي في البصرة ضد النظام العراقي، بسبب تسلط الأمن وسوء الأحوال الاقتصادية، و الفساد الحكومي، وتلوث الماء، وانقطاع الكهرباء، وغياب الخدمات، وتردي الأحوال المعيشية...الخ.

البصرة التي يتخيلها النظام الإيراني ومعه النظام العراقي بأنها منطقة نفوذ لهما، أثبتت المظاهرات في ساحتها، أن البصرة لا يمكن أن تكون إلا منطقة نفوذ للعراق، والعراق فقط.

أهل البصرة متخصصون بالثورات والانتفاضات الشعبية منذ أزمنة قديمة.

من قبل خرابها بعد ثورة الزنج في القرن التاسع الميلادي، حتى انتفاضتها ضد الطاغية صدام حسين بعد غزو الكويت في عام 1991.

يذهب طغاة ويأتي طغاة في تاريخ البصرة، والبصرة تحترف الانتفاضة في وجههم واحداً تلوَ الآخر.

البصرة التي يتخيلها النظام الإيراني ومعه النظام العراقي بأنها منطقة نفوذ لهما أثبتت المظاهرات في ساحتها أن البصرة لا يمكن أن تكون إلا منطقة نفوذ للعراق

خيّل للنظام الإيراني أن البصرة ذات الأغلبية الشيعية، منطقة نفوذ له، وأن هذه المدينة العريقة مع أهلها ونخيلها ملكٌ لعمائم طهران.

طهران التي تعرضت لصفعة قاسية من سكان البصرة، وهم يتظاهرون ضدها ويقتحمون بشجاعة القنصلية الإيرانية، ويحرقونها ويمزقون الأعلام الإيرانية، بينما تبنت الحكومة العراقية الغارقة في فسادها، الرواية ذاتها التي تبناها النظام السوري في بداية الثورة السورية، وهذه الرواية الرسمية تحكي عن مندسين بين المتظاهرين يقومون بعمليات التخريب....

وأيضاً لجأت الحكومة العراقية لنفس الحل، الذي لجأ إليه النظام السوري، وهو قتل هذا المندس المخرب، وبحجة قتله يتم قتل كل المتظاهرين.

صفعة قاسية لعمائم طهران، تكمن خلفها حقيقة لا تقل قسوة عن الصفعة، سوف يفهمها النظام الإيراني، شاء أم أبى، طال الزمن أم قصر، وهي أن نظام طهران ليس بحامٍ للشيعة في العراق أو العالم أو وصي عليهم، ولا على شيعة إيران، إنه حامٍ لنفسه فقط ولمصالحه، وفهم النظام الإيراني بعد تحرك البصرة، أن الصفعة قد تأتيه في أي لحظة (غالباً) ممن يعتقد أنهم تابعون له، قبل أن تأتيه من المخالفين له بالانتماء.

من مظاهرات البصرة إلى مظاهرات إدلب، رغبة البشر بالحرية والكرامة والحياة والعدالة هي أكبر من أي انتماء طائفي، تلك الانتماءات التي غذتها إيران والنظام السوري، وقوى خارجية وداخلية لأجل حسابات خاصة بهم، حسابات بعيدة عن رغبة هذه الطوائف بالحرية والكرامة معاً، بعيداً عن أي وصاية لأنظمة استبدادية داخلية، أو أنظمة استبدادية خارجية.

يأتي طغاة ويذهب طغاة، تأتي حروب وتذهب حروب، تأتي كوارث وتذهب كوارث، تنتهي مظاهرات وتبدأ مظاهرات، ومن جنوب العراق إلى شمال سوريا، من الشيعة إلى السنة، يبقى النخيل هناك شوكة في حلق الطغاة، ويبقى الزيتون هنا شوكة في حلق الطغاة.