لبنان.. "بالساحة تلاقينا"

2019.10.22 | 16:36 دمشق

مظاهرات لبنان
+A
حجم الخط
-A

عندما ينتفض الشعب، ينتفض لأنه في لحظة ما يدرك ذاته ويعي ما هو عليه في اللحظة الراهنة وكيف هو واقعه الذي شيئًا فشيئًا كان يفقد فيه حقوقه حتى يصل إلى نقطة اللا احتمال، حيث تصبح الحياة معاناة دائمة وتصبح أضيق من أن توفر فسحة عيش إنساني. هذا الوعي والإدراك للذات الذي يدفع الشعب كي يثور على واقعه، لا يعني بالضرورة أن الشعب في اللحظة ذاتها لديه تصور ناضج لما يمكن أن يكون عليه مستقبلاً، أو بصورة أدق لا تكون صورة خريطة الطريق لما يجب أن يعمل عليه ليكون ما يطمح أن يكون عليه مستقبلاً، وهذا أمر طبيعي خاصة إذا تابعنا الانتفاضات التي حصلت في المنطقة العربية بما أطلق عليه الربيع العربي، وآخرها الحراك الشعبي في لبنان حاليًا.

لكن سؤال المستقبل منوط بالحاضر، وإذا كان لكل منطقة خصوصيتها فإن هناك بنودًا عريضة تندرج مطالب الشعوب تحتها، بنود يشملها عنوان شامل "الكرامة". والكرامة تتفرد باكتفائها بذاتها بالرغم من شموليتها وانفتاحها على احتضان كل ما يميز إنسانية الإنسان، فإذا كانت هناك شعوب انتفضت لأجل الحرية أو العيش الكريم أو التعبير عن الذات أو تقرير المصير والمشاركة في صنع القرارات والسياسات أو غيرها من الحقوق المستلبة، فإن الهدف النهائي هو استرداد السلطة المنتزعة وإعادتها إلى الشعب الذي لولاه لا يوجد ما اسمه دولة ولولاه ما كان هناك عقد اجتماعي معها ولولاه ما كان هناك حكومات.

لا يمكن للواقع أن يستمر إلى ما لا نهاية، هذه طبيعة الحياة، لذلك كانت المجتمعات تضيق بقوالبها وتنتج منظوماتها الجديدة التي تستوعب متطلباتها المتجددة، فكيف بالواقع الحالي الذي وصلت فيه البشرية إلى مستويات فائقة التعقيد والتلون والتطور كما هي عليه اليوم؟ هل يمكن لشعب من الشعوب في عصر الحقوق والحريات والعالم الرقمي أن يركن إلى واقعه المتردي المسلوب المرتبط بأنظمة سياسية واجتماعية تشل طاقاته وقدراته الإبداعية وتحاصر تفكيره وإرادته وتفقره وتدفعه إلى العيش بالحد الأدنى، بينما هناك حيتان تنمو وتكبر وتتضخم على حساب حصته من الوطن والحياة، مكرسة نظمًا تؤمن لها الثبات والاستقرار والتمسك بالحكم والمصير، من فساد وهدر للمال العام واستثمار بشع لما يميز المجتمعات من تنوع وتعدد ثقافي وقومي وديني ومذهبي وطائفي؟

الشعب اللبناني على مدة عقود ثلاثة كان يزداد استنقاعًا وعيشه يزداد ضنكًا وضيقًا

المعاناة تكاد تكون واحدة بألوان تميز كل شعب في المنطقة عن غيره، وإذا كان الشعب اللبناني دفع فاتورة من الحرب الدموية الشرسة انتهت باتفاق الطائف الذي أقرّ في مثل هذا اليوم قبل ثلاثين عامًا، 22 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1989، فإن تلك الفاتورة الباهظة التي دفعت قبل هذا الاتفاق من حرب أهليه استمرت لأكثر من خمسة عشر عامًا، تحضر اليوم في وعي الشعب اللبناني بوهجها وطزاجتها ورائحة دمها، لتقدم له البرهان الدامغ على أن ما أنتج ومورس من سياسات بعد ذلك الاتفاق لم يكن إلا تكريسًا للطائفية والمحاصصة المهينة المبنية عليها، وأن الشعب اللبناني على مدة عقود ثلاثة كان يزداد استنقاعًا وعيشه يزداد ضنكًا وضيقًا، وأن السياسات التي بنيت ومورست بعدها أدت إلى تفجير الجحيم الكياني، الشعب الذي نزل إلى الساحات وأبهر العالم بحراكه كسر أعتى جدار كان مقامًا في وجهه، جدار الطائفية الذي طالما استثمر به زعماء الطوائف وبنوا صروحهم من مال الشعب وحصصه في الحياة على أسسه.

نزل الشعب اللبناني بكل زخم الحياة التي لم يتنازل عن احترامها وحبه إياها حتى عندما كانت الحرب الأهلية تصطاد الأرواح بلا حساب، نزل إلى الساحات كتعبير أول على امتلاكه المكان، المكان المسلوب منه، الساحات التي أنشأها البشر منذ أن بنوا قراهم، لا توجد قرية بلا ساحة، فهي فضاء الشعب، فيه كانت تعقد الأفراح والاحتفالات قديمًا، أفراح الأعياد واحتفالات المواسم وأهازيج النصر، الساحات ملك الناس، وتملأ سردياتهم الشعبية وحكاياهم وأغانيهم، يكفي أن نستذكر بعضًا من مسرحيات فيروز والرحابنة، "ساحة سيلينا، سياحة ميس الريم..." من أغاني صباح "دق الكف وقم، قم عالساحة"، ونصري "فرسان الساحة" ووديع "بالساحة تلاقينا بالساحة" وغيرهم، لنعرف كم الساحة مهمة في حياة الناس، وكم احتفظت بأهميتها وطورتها مع تعقد الحياة وتشكل المدن. هذه الساحات تشكل للشعب الثائر الغاية الأولى والهدف الأول والدليل الأول على قرارهم امتلاك فضائهم، امتلاك أمكنتهم وامتلاك وجودهم المغيّب. 

الساحات للشعب، إنها الخطوة الأولى التي يبدأ بها مشواره الشائك المحفوف بالمخاطر

الساحات للشعب، إنها الخطوة الأولى التي يبدأ بها مشواره الشائك المحفوف بالمخاطر، الخطوة المباركة التي اتفق حولها الشعب بغالبيته، كسر وتحطيم أسس الطائفية، الحراك المدني الخالص الذي غطت فيه أجساد المتظاهرين الساحات ولونتها برقصات غاية في الجمال، رقصات يؤديها الوجع والفرح متعانقين. 

حراك ليس فيه أحزاب ولا زعماء ولا سياسيين، حراك رسالته الأولى أن موتنا الوجودي الذي اشتغلتم عليه خلال عقود من الفساد لم ولن يتحقق لكم، فنحن أكبر من الموت، نحن الشعب ونحن أصحاب القرار وأصحاب السيادة وأصحاب الساحات والوطن. حراك اتخذ من شعاره "كلّن يعني كلّن" سقفًا لتطلعاته التي لا بد أن يرسم طريقه إليها، ولن يكون هناك فراغ سياسي يؤدي بالبلاد إلى الهاوية طالما هناك شعب لديه هذا الكم من الطاقات وحب الحياة واللهفة إلى المستقبل، إذا لم تهجم عليه النوايا الخبيثة وتستجلب التدخلات الخارجية. ما يميز الشعب اللبناني عن غالبية شعوب المنطقة هو هامش حرية التعبير الواسع لديه، لذلك كانت الساحات مكانًا للجميع، يقولون فيه ما يضمرون من أفكار ووجع، يصرخون في وجه أنظمتهم المكينة التي ظنت إلى أمس القريب أنها راسخة تمتلك الحاضر والمستقبل، حطموا في حراكهم الذي أكمل الأسبوع كل الرموز الحارة، أثبتوا أن أمام كرامة الشعب وإرادته ليس هناك من مقدس، القدسية للشعب وإرادة الحياة الكريمة فقط.

أخمن أن كل فرد في منطقتنا المنكوبة يتطلع ويتابع بلهفة انتفاضة الشعب اللبناني، حالمًا بأن تكون ملامح تجربة جديدة في طريقها إلى التكامل والنضوج والنجاح، تعيد إليه ثقته بنفسه، تعيد إليه الأمل بأن إرادة الشعوب هي من ينتصر في النهاية، وأن طريق المستقبل يبدأ من فهم الحاضر ويبنى عليه. صحيح ان ما سمي بالربيع العربي كان في غالبيته وبالاً على بعض الشعوب، كما الشعب السوري واليمني والليبي، لكن منطق الحياة وحركة التاريخ وبعض التجارب الحالية في المنطقة، كما تونس والسودان والجزائر في حراكها الحالي، كلها تمنح مؤشرًا على أن بقاء الحال من المحال، وأن "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر".