الشعبوية والتفاهة السياسية.. نهايات ما بعد كورونا

2020.04.16 | 00:00 دمشق

2020-04-15t161008z_446864836_rc245g928ksv_rtrmadp_3_health-coronavirus-brazil.jpg
+A
حجم الخط
-A

تفتح أزمة وباء كورونا سجالاً حول مستقبل العالم ما بعد هذه الجائحة وتأثيراتها العميقة في مجالات مختلفة ومتعددة. لن يكون أثر الوباء محصوراً بصراعات الحدود بين الدول، أو في مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية. نوع الأزمات التي سيخلقها الوباء وحالات العزل التي نتجت عنه، ستؤدي إلى أزمات نفسية وفكرية، تمسّ الإنسان كفرد قبل مسّه من ضمن مجموعة متجانسة في حيّ أو بلدة أو مدينة. سيكون العالم أمام مسلسل تجارب طويل الأجل. منزلته بين احتمالين، إما استمرار طغيان النماذج الشعبوية والتي ترتكز على التمييز بين الأعراق وصفوتها، بالانطلاق من التلاعب بالغرائز والأوهام. وإما إعادة الاعتبار للدول الوطنية، التي ستنتج عن صراع فكري متجدد، حول طبائع الدول وانصهار المجتمعات وإذا ما كان ذلك سيؤدي إلى الخروج من مفهوم التتفيه الذي تعمّم في السنوات الأخيرة.

 كورونا وحده دون غيره، أسدى ضربة قاسمة لكل مرتكزات الشعبويين، نظرياً على الأقل. يقود المنطق إلى ارتفاع احتمال تراجع الشعبوية التي اجتاحت العالم منذ انتصار النظام الرأسمالي على النظام الاشتراكي، بمعنى سقوط الصراع الفكري، هو ما دفع الناس إلى الالتفاف على أزماتها الفكرية والاجتماعية، وهزيمة أفكارها، باللجوء إلى كل ما هو مسلّ أو بالهروب من التفكير للاستسلام للتطور التكنولوجي والاتصالات. الفراغ والنواقص التي كان يستعاض عنها بصراع سياسي وفكري بأطر حزبية وتنظيمية. أصبحت الاستعاضة عنها في الزمن الجديد، أي ما بعد "نهاية التاريخ" لدى فوكوياما بالركون إلى وسائل الاتصال الحديث، والتي فتحت المجال أمام الجميع في جعل أنفسهم مؤثرين في الرأي العام وقادة رأي.

وصلت التفاهة إلى أعلى مراتبها، بالتركيز على الصورة وصناعتها وتجاهل المضمون. وتلك فلسفة جديدة في إدارة الرأي العام والمجتمعات، بحيث تترسخ الصورة الأخيرة أو القول المنطوق أخيراً في عقول المتلقين، بدون الحاجة إلى أدنى مراجعة، لأن الناس تفضّل الأسرع والأسهل. وهذه إحدى المرتكزات التي أسهمت بوصول شخص كدونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي ارتكز على خطابات شعبوية لاقت استقطاباً هائلاً في صفوف المجتمع الأميركي. والمفارقة أن ترامب المدان بالتحرش بالنساء، تم انتخابه بمواجهة امرأة.

مقابل شعبوية ترامب، الذي يرتكز على "أميركا أولاً" وأميركا غير مجبرة على دفع تكاليف الأمن العالمي، واهتمامه بالتفاصيل الجزئية الأميركية على حساب المشروعات الكبرى. تبرز شعبوية أخرى لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي ترتكز على إعادة مجد روسيا واللعب على القومية الروسية، والثأر للهزيمة الروسية الكبرى في أفغانستان وفي انهيار الاتحاد السوفييتي، بمواجهة التعاطي الغربي مع روسيا بأنها بلد هزيل وضعيف. يعبر بوتين عن جزء من الانتقام لمأساة روسيا، واللا ثقة الروسية بالخارج، وخصوصاً أوروبا. هو يمزج بين لينين وستالين، ويستحضر كاترين وبطرس الأكبر. وبالتالي يختصر نتاج روسيا بكل مكوناتها، والسردية التاريخية الروسية التي تشعر بمظلومية الاحتقار الأوروبي للحضارة الروسية.

وصلت التفاهة إلى أعلى مراتبها، بالتركيز على الصورة وصناعتها وتجاهل المضمون. وتلك فلسفة جديدة في إدارة الرأي العام والمجتمعات

الشعبوية المشهودة أميركياً وروسياً، كانت قد مرّت بها دول أوروبية عديدة من قبل، كفرنسا مع نيكولا ساركوزي، وإيطاليا مع سيلفيو برلوسكوني، وحالياً بريطانيا مع بوريس جونسون، وتنامي اليمين العنصري. فغدت أوروبا المتحدة في مواجهة مصيرية لتفكك الاتحاد ما بعد أزمة كورونا، وحالات العزل والانعزال التي تعيشها دولها لا سيما إيطاليا وإسبانيا. وهذا سيطرح صراعاً متجدداً بين اليمين العنصري والشعبوي، مع أحزاب وقوى ذات توجهات مناقضة.

عدم نجاعة هذه النماذج، ثبت في أكثر من أزمة مالية واقتصادية، بيئية وصحية. وضعت هذه الأزمات الرأسمالية في أزمة عميقة. ولكن أيضاً من كان على نقيض الرأسمالية، كالشيوعية، فقد مرّت بأزمات أسوأ وأعقد، أبرزها الأزمة السلطوية التي أوصلت إلى تعميم مفهوم التفاهة السياسية، خصوصاً الشيوعية المحنّطة التي جسّدها الاتحاد السوفييتي، وهذه أدت إلى خسارة ديناميكيات كان يضفيها الفكر اليساري لإثراء السياسة وإعطائها معنى وبعداً إنسانياً. لذلك أدى موت الشيوعية إلى عوارض كثيرة من بينها انعدام أي فعالية لليسار، وفقدانه أي جاذبية. ووقف التفكير الفلسفي الذي أصيب بنوع من الافتقاد للجدل، والشعور بالخواء الفكري، الذي يهيمن على العالم، ويؤدي إلى الكآبة. فكان للناس خيار الهروب من هذه الكآبة إلى التسلية ووسائل الترفيه مكان التفكير، ما أنتج تعميم ثقافة التلقّي بدون أي تفاعل، أو بدون أي إشغال للخيال أو التفكير، وهذا أساس التربة الخصبة للشعبوية ومسرحها.

 صعود قوى اليمين العنصري في أوروبا هو نتاج لحركة سكانية جديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي دخلت أوروبا الشرقية بالوحدة الأوربية ما أدى الى حصول حركات هجرة جزئية، قريبة وبعيدة، وبنفس الوقت فإن المجال المفتوح للاتحاد الاوروبي جذب مهاجرين من أقطار أخرى، وهذا ما أنتج ميلاً لإعادة النظر بالصيغة الأوروبية وميلاً للنزعات القومية، وهذا ما ينتج بريكست، أو ما يماثله في دول أخرى. كالحركة الكاتالونية، الاسكتلندية، واشتداد عصبيات مناطقية في فرنسا. حالات استفاقة القوميات تأتي بعد أن قضت عليها الثورة الفرنسية، وهذه نتاج أزمات ثقافية، اقتصادية، وأزمة هوية.

لا يبتعد العرب عن سياق هذا الانهيار، وهم يغرقون في تفاهة نادرة. التعبير التاريخي لمفهوم التفاهة عربياً هو "الرويبضة"، أي الرجل التافه الذي يتحدث بشؤون العامة. وهي ترتبط بالأمية، التي تختلف مع العلم. للفلاسفة تاريخياً دور كبير في السياسة منذ أيام سقراط وأفلاطون وأرسطو وصولاً إلى ابن خلدون، بحيث يجانب الفيلسوف أو المثقف السلطان أو الحاكم. اليوم لم يعد من دور للمثقف، إنما أصبح الدور للمطبلين الذين من واجبهم صناعة الرأي العام، أو التأثير فيه.

منذ نموذج "الضباط الأحرار" في مصر بدأ العمل على التفاهة الجاسوسية من خلال تشغيل الفن والثقافة لصالحهم، وأخذ هذا النموذج في التعمم في سائر "الأقطار العربية". أصبحت لعبة الأمن هي التي تصنع التفاهة، المرتكزة على ملاحقة الحياة الخاصة لأي متعاطي بالشأن العام. من مصر إلى سوريا، إلى الدول العربية الأخرى. لكن هذه النماذج أيضاً آلت إلى السقوط في أكثر من محطّة، أثبتت فشلها وخواءها.

مع غياب الصراع الفكري وادّعاء الرأسمالية الانتصار الساحق، مرّ العالم في حالة خواء سياسي، وصلت إلى حدّ تتفيه السياسة، أو أي فكرة سياسية. وهذا ما أنتج ترهّلاً سياسياً على الصعيد العالمي، تعاظم معه مفهوم الشعبوية التي تقوم على ديماغوجية غير واقعية، ترتكز على الصراخ السياسي ولا تنطلق من فكرة واضحة أو جدية. وربما من أسوأ المراحل التي قد تبلغها السياسة هي حالة التأثر الشديد بشعارات شعبوية، تعيد تأسيس البنية السياسية العالمية، بحيث يتبوأ الشعبويون مقاليد الحكم في أصقاع العالم المختلفة، وأصبح النموذج معمماً ويحتذى، وكان ذلك جزءاً من عمليات متعددة ومترافقة ثقافياً، وسياسياً، وإعلامياً، واقتصادياً ومالياً. اليوم وصل هذا النموذج إلى مفترق مصيري، إما أن يتجدد بعد أزمة كورونا، أو يكون العالم أمام نهضة فكرية، ثقافية سياسية عالمية.

كلمات مفتاحية