الحياة.. نكتة السوريين السمجة

2021.09.29 | 06:04 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

يزدحم مطار دمشق بالهاربين الآن، ربما لا توجد وجهة معينة كل ما في الأمر أنهم يتعلقون بقشة أخيرة تنقذهم لا من آلة الموت فحسب، بل يمنون أنفسهم بأن تأخذهم تلك القشة باتجاه طوق نجاة أو تعدهم بقليل من أوكسجين الحياة. 

قدمت مصر تسهيلات جديدة وخفضت رسوم تأشيرة الدخول، ومثلها فعلت الإمارات في بادرة اعتبرها كثيرون هبة ومنحة للسوريين الذين يختنقون ويستميتون للخروج من قضبان الموت. 

مازالت البلاد تنزف من دون أدنى شعور بالتعاطف من العالم لكنها تنزف في هذه المرة أبناءها وتلفظهم خارج حدود رحمتها بغزارة، فيما تقدم الدول الأخرى نفسها على أنها المنقذ الذي يمد لهم يد المساعدة ويمنحهم أحلامهم على طبق من ذهب، غير أن الحقيقة هي أنهم يبيعون الأحلام للسوريين الذين يغامرون بآخر رمق من الحياة لديهم كي يطبقوا بأكفهم ولو على جزء ضئيل منها.

يحدث هذا في وقت يترقب فيه السوريون في بداية كل شتاء بعضاً مما يضمن لهم إنسانيتهم وحياتهم الكريمة، لكنهم يعودون في كل مرة أيضاً بخيبة أمل جديدة ليخوضوا صراعهم الموسمي وحيدين، فيدخلونه وهم يجرون ذيول الخيبة ثم يلتحفون بأحلامهم وهم يمنون أنفسهم بالعدالة التي لم يبق لهم منها سوى الأمنيات.

تقدم الدول الأخرى نفسها على أنها المنقذ الذي يمد لهم يد المساعدة ويمنحهم أحلامهم على طبق من ذهب، غير أن الحقيقة هي أنهم يبيعون الأحلام للسوريين الذين يغامرون بآخر رمق من الحياة لديهم كي يطبقوا بأكفهم ولو على جزء ضئيل منها

هنالك نكتة حمصية يتداولها الحماصنة على سبيل التندر، وهي أن حمصياً تلقى على وجهه صفعة خمسين مرة على غفلة منه.

كانوا يتناقلونها للدلالة بها على سذاجة المتلقي وإعادة تكراره الخطأ مراراً وتكراراً، على الرغم من النتيجة الحتمية، ثم يضحكون من دهشته في كل مرة بعدها.

ربما يشبه هذا حال السوريين الذين مازالوا يعولون على وعود لن تتحقق، وفي هذا نشترك جميعاً بالألم والخسارة مهما كانت مرجعيتنا السياسية، فالعالم ما زال يوجه لسوريي الثورة صفعة تلو الأخرى وما زلنا ننتظر تحقق العدالة ولو بجزء منها فيما يتلقى سوريو النظام الصفعة من حكومتهم التي حاربوا أبناء جلدتهم من أجلها وبذلوا في سبيلها الغالي والنفيس من دون أدنى تقدير أو اعتراف بالجميل.

انتهت النكتة إذن هل كانت تبدو لطيفة؟ نعم ولطالما ضحكنا منها ومن بعضنا الآخر، لكنها لا تبدو كذلك الآن، بل تبدو هنا ثقيلة الظل وغير فكاهية وينضح منها الألم مثلما ينضح من حكايات السوريين مهما اختلفت انتماءاتهم ومصائرهم.

لقد باتت الحكايات والقصص التي تتناهى إلى سمعنا بين هنا وهناك، تقسم قلوبنا المعلقة في الداخل السوري وتقطع أرواحنا المشرذمة في بلدان وقارات العالم، لنبقى عالقين بين الاحتمالات يستحوذ علينا شعور العجز واللا جدوى.

تبدو كوميديا حكاية البنزين أو المازوت على سبيل المثال مضحكة بقدر ما هي مبكية، إذ إن السيناريو المكرر يخفي وراءه استصغار الناس واعتبارهم وقودا لمن يعتبرون أنفسهم أهم وأفضل، فيما يعتصر القلب بسبب أخبار السوريين الذين تضيق بهم بلاد اللجوء ويتعرضون لأبشع أنواع الظلم والعنصرية ويقتلهم الحنين إلى بلادهم كي يتخلصوا من ذل الحياة في المنفى.

تبدو كوميديا حكاية البنزين أو المازوت على سبيل المثال مضحكة بقدر ما هي مبكية، إذ إن السيناريو المكرر يخفي وراءه استصغار الناس واعتبارهم وقودا لمن يعتبرون أنفسهم أهم وأفضل

أيهما أشد قسوة حقيقة؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك وعلى من يمكن أن نلقي اللائمة في هذا إذن، نحن لا نعرف أيضاً، هل على السوريين الذي تركوا إخوتهم في الدم يموتون وحيدين أمام الآلة العسكرية دفاعاً عن حكومة لم تفكر بمواطنيها يوماً ويحاولون الآن الهروب من الجحيم المحيط بهم؟ أم على الحكومة التي تستمر في استنزاف روحهم؟ أم على الفئة الثانية من السوريين الذين اكتشفوا مبكراً أن الحكاية ستطول وأن النهاية لن تكون في صالح الأبرياء فتركوا كل شيء خلفهم وجمعوا أحلامهم في حقيبة وتاهوا في بلاد الله علّهم يجدون مستقراً وأمناً ليحطوا رحالهم.

الإجابة في الأحوال كلها غير واضحة والحكاية أكثر تعقيداً من الفلسفة وإطلاق الأحكام، بل وأكثر من ذلك فإن الإجابة أياً كانت إن دلت على شيء فهي تدل على نتيجة واحدة، هي أن العذاب قد كُتب على السوريين على اختلاف انتماءاتهم وأماكن وجودهم، لكن تلك الخسارة المرة على فجاجتها لم تستطع أن تجعل منا واحداً، وتركت كلاً منا يسبح في اتجاه مختلف بحثاً عن خلاص فردي.

لكن الحقيقة الأكثر تجلّياً ووضوحاً أننا بتنا من دون ذاكرة ومن دون وطن ومن دون أحلام، وتضاءلت مطالبنا لتقتصر على كسرة خبز أو بيت صغير يظلل الحفنة الباقية من أعمارنا.

العذاب قد كُتب على السوريين على اختلاف انتماءاتهم وأماكن وجودهم، لكن تلك الخسارة المرة على فجاجتها لم تستطع أن تجعل منا واحداً، وتركت كلاً منا يسبح في اتجاه مختلف بحثاً عن خلاص فردي

ربما يبدو ذلك أهم الاحتياجات التي قد يحصل عليها الإنسان، فالوطن ربما ليس سوى منزل بسيط وعائلة تحتضن وجود الشخص، إلا أن ما يسمى وطناً لكل السوريين بخل علينا بتلك الأشياء البديهية وتركنا في مهب الريح ونحن نعيش حسرة افتقاد الأشياء أو يقتلنا الحنين نحو سنوات خلت كانت لدينا فيها أحلام مختلفة.