icon
التغطية الحية

 الثقافة العربية والعالم الرقمي.. ضوء على منصات التواصل المعنيّة بالأدب

2022.06.15 | 23:45 دمشق

ktb_mnsat.jpg
(المصدر: فيس بوك)
+A
حجم الخط
-A

في عصر الجاهلية كانت الثقافة شفويةً، يتناقلها الناس بألسنتهم، ثمَّ انتقلت إلى طور آخر، فصارت كتابيةً ورقية، وتتجه في أيامنا هذه لتصبح إلكترونية رقمية نتابعها على شاشات الحواسيب والهواتف.

الحالة الأخيرة يسميها بعض المختصين "الثورة الرقمية"، وقد وصل مدُّها إلى عالمنا العربي، وأفرز أموراً جديدة سنتوقف أمام جانب منها أشرنا إليه في عنوان المقال، وهو ظاهرةٌ قوية لافتة تشكَّلتْ في العشرين سنة الأخيرة.. ظاهرةٌ، أخذت تنمو وتنمو من سنة لأخرى، بل ربما من شهر لآخر، وهي منصَّاتُ تواصل اجتماعي، اهتمامُها منصبٌّ على الثقافة والأدب، وتعتمد النشر الإلكتروني بما فيه من ليونة وسرعة ويسر.

استقبل بعضُ المثقفين هذه الظاهرة بحذر، وبعضُهم بفرح، وربما بفرحٍ غامر. أنا كنتُ من النوع الثاني، فقد وجدتُ أنَّ هذه المنصَّات أو الجيد منها يشبه روضةً غنَّاء تجمع ثمرَ العقول والقرائح، فإذا كان اتحاد الكتَّاب في مصر أو سوريا أو الأردن بمسمياته المختلفة هو غالباً لكتَّاب البلد نفسه، فهذه المنصات صارت كأنها اتحاداتُ كتَّاب تتعدَّى الحدود الإقليمية، وتضع القلمَ العربي بجوار أخيه القلم العربي الآخر بعد حواجزَ من الغربة فرضتها ظروفُ السياسة في منطقتنا، وأصبح للأقلام الحبيسة فرصة لكي تخرج من الأسوار المفروضة عليها إلى رحاب التواصل والعطاء، وهكذا.. فكأننا على باب عصر جديد، بل هو عصرٌ جديد حقاً.

الإيجابيات

لم تكن الإيجابيات قليلة، وقد بدت كموسم خيرٍ مكتنزٍ بالعطايا، فيه الجميل والأجمل، ومنها:

  • تسهيل الحركة أمام الفكر والمُنتَج الأدبي من خلال السياق الرقمي: وهو ما أشرتُ إليه فيما سبق، وأضيف: كنا في سوريا مثلاً قلَّما تصلنا كُتبٌ من المغرب العربي، وقلَّما تصلهم كتبُنا، أي أن هناك ما يشبه الاغتراب الثقافي بين الأشقاء العرب، وانخفاضاً في مستويات التفاعل في هذه الناحية، وبات شاعرٌ كبير أو قاص عظيم متقزِّماً من طرف الانتشار والجماهيرية بسبب الحالة المومأ إليها إذ لا يعرفه سوى أبناءِ بلده، فهو شاعر لبناني فقط إذا كان من لبنان، ويمني إذا كان من اليمن، وليس شاعراً عربياً يصل صوته إلى الجمهور العربي الكبير الواسع.
  • تحفيز على الإنتاج والكتابة: فالكاتب بات يشعر وكأنَّ هناك جمهوراً يومياً ينتظره، ولا سيما من خلال منصة الفيس بوك حيث صار لكل أديب صفحة أو أكثر، وعليه أن يضخَّ إنتاجاً متواصلاً في ذلك المكان، وأنا- شخصياً- امتلأتُ حماسةً في البداية لهذا الأمر، وسجَّل انتاجي زيادةً ملحوظة، وحتى حين أضع رأسي على الوسادة يأتيني شيطانُ الكتابة ويسألني عما سأقدِّمه غداً، كذلك باتت الجماعات الأدبية التي ينتمي إليها الكاتب عبر "الواتسآب" أو غيره تغريه بأن يدفع إلى بياض صفحاتها إنتاجاً جديداً، وأن يَظهر خِصَباً معطاءً إلى جوار أقرانه.
  • تحفيز على التفاعل: فالمواد الأدبية التي تُنشَر على هذه المنصة أو تلك لا تحتاج لوقت طويل لكي يراها الناقد، ويعطي رأيه فيها- كما كان سابقاً- بل أصبح التفاعل مع ما يُنشَر سريعاً، وشبه فوري، فيستطيع الكاتب أن يعرف قيمة إنتاجه جودةً أو رداءة دون إبطاء، ومن خلال أراء عديدة وتعليقات متنوعة لا من خلال صوت واحد.
  • الجرأة والحرية: أصبح هذان الأمران المهمان للكتابة متاحينِ للكتَّاب، بعد حرمانٍ طويل منهما، ولا سيما في عالَمنا العربي الماهر جداً في كبتِ الأنفاس والتضيقِ على حركة الفكر، وصرنا نتخيَّل الرقيب أحياناً محسوراً مهموماً لا يدري ماذا يفعل! فمقصه العتيد الذي كان يطارد به الكلماتِ الجريئةَ النقية طار من يده أو تخطَّاه العصر بتقنيته المتقدمة، وفضائِهِ الرحب المفتوح.
  • تواصل اجتماعي إنساني بين الكتَّاب والكاتبات: ففضلاً عن التواصل الأدبي صار في وسع طائفة من هؤلاء منتمين إلى منصة معينة أن يعرفوا أحوالَ بعضهم من صحة ومرض وسفر، وفي وسع القادر منهم أن يُقدِّمَ العون لمن يحتاجه، وأنا- على سبيل التنويه- أعتزُّ بالمنصات الجيدة التي أنتمي إليها، وأُطلق عليها اسم: أُسرة روح وعقل.
  • وعد بولادة شيءٍ كبير جديد: بدا هذا الأمر لبعض الوقت، فقد شعرَنا مع موجة التفاؤل الأول بأن الحواجز السياسية بين بلداننا العربية ستنهار لاحقةً بالحواجز التي تهشَّمت في ميدان الثقافة والفكر، وأنَّ وطننا العربي سيلد نفسَهُ ولادةً ثانية لائقة من رَحِم عصر العولمة الثقافية والانفتاح، ومادام رأسُ الأمة يتجدد، فستتبع الرأسَ بقيةُ الأعضاء، وبهذا كان يتداول الأدباءُ والمثقفون فيما بينهم، وبعضهم حلَّقَ بعيداً مع طير الأحلام.

السلبيات

بدأت تتغير الصورة البهيَّة المنتظَرة، وأخذت تذبل زهرةُ التفاؤل نتيجة انتشار سوء الاستخدام لهذه المنصَّات، ويبدو أن يد التخلف حين تمتدُّ لأي شيء فهي تفسده جزئياً إن لم يكن بصورة كُلِّية، ومن السلبيات:

  • غزو شبه كاسح لمنصَّات يقوم عليها أدعياء ثقافة: وخطورتها جاءت من كثرتها وتزايدها العجيب، فهي تتوالد بطريقة الأرانب! ثم من المواد التي تُعرَض فيها، فأكثرها بين الضعيف والبالغِ الرداءة، بل إن بعض هذه المواقع والمنصات كأنه أخذ على عاتقه نشرَ المفاهيم المغلوطة، وكلَّ ما يفسد الذوق والعقل، ويزيد الخرابَ خراباً، وهنا أتذكَّر بيت نزار قباني:

ذروةُ الذل أن تموتَ المروءاتُ/ ويمشي إلى الوراءِ الوراءُ

ثم ازداد الانحدار حتى صرنا نرى مقابلَ كل منصة جيدة عشرَ منصات فاسدة أو عشرين! وفي هذه المنصات أو المستنقعات صار مَنْ لم يمسك قلماً في حياته- بقدرة قادر- شاعراً أو روائياً يقارع الفحول!

  • الشللية والعنصرية أحياناً: فالمنصات- في معظمها- قائمة على تنوع بلدان العرب المنتمين إليها، يكتب فيها السوري والقطري والسعودي والسوداني والمصري والجزائري... وقد لاحظتُ مراراً في هذه المنصة أو تلك تحالفاتٍ غيرَ معلنة قائمة على مبدأ: (مع وضد)، فإذا نشر ابن تلك أحد الأقطار مقالاً أو قصيدة انهمرت عليه لايكاتُ أبناء قُطره، وتعليقاتُهم واستحساناتُهم، وانحجبت عنه لايكات الآخرين! وإذا كان وحيداً في المنصة لا يوجد شخص آخر من بلده لم يلتفت إلى منشوره أحد! وهكذا.. فبدلاً من الانفتاح الثقافي جاء انغلاق بغيض مؤسف في بعض الأحيان! وبدلاً من الوكف كما يقول المثل الشعبي وجدنا أنفسَنا تحت المزراب! لعل هذه الحالة تسللت لمواقع الثقافة من ملاعب كرة القدم وأجوائها التي تغلغلت فيها الانحيازات الضيقة والعنصرية، والعدوانية!
  • منصَّات هدفُها تلميع اسم معين أو أسماء: صاحب الاسم هو نفسه مؤسس المنصة أو الموقع غالباً، يقوم المذكور -لغاية في نفس يعقوب- بإنشاء موقع ثقافي ويُطبِّل ويُزمِّر بشعارات براقة، لكنه في الحقيقة مصابٌ بالنرجسية، ويسعى كقياصرة السياسة أن يكون قيصراً أدبياً! هذه الحالة باتت موجودة بوضوح في عدد من منصَّات أدب الأطفال، وقد غزتها أسماء كتَّاب وكاتبات نزلوا على أدب الطفل بالمظلة حاملين نصوصاً متواضعة، وبسماتٍ دبلوماسية ولوازمَ الشهرة!
  • هيمنة كبيرة لمواقع دينية لا تتسم الوعي الكافي: هذه المواقع -بدلَ التنوير الحقيقي- تسعى لنشر ثقافة بمفهوم متشدد أو أحادي النظرة؛ وهؤلاء غالباً ما يرفضون الفنونَ والآداب، ويهاجمون أصحابَها ومنصاتِها، وأصبح لهم -للأسف- سيطرةٌ كبيرة وجماهيريةٌ واسعة في الأوساط الشعبية بسبب ضآلة الوعي لدى كثيرٍ من الشرائح الاجتماعية، ورأينا ظواهرَ قديمة مندثرة أو شبه مندثرة تخرج من القبور، وتعود لتطلَّ برأسها، وتذيقنا الويلات، وتنشر التشرذم والولاءات المقيتة كالطائفية والمذهبية واتجاهاتٍ عفنة شديدةِ الضيق حتى ضمن المذهب الواحد متناسين سماحةَ الإسلام وما فيه من رحمة ووداد واحتضان للخَلْق كلِّهم.

مقترحات

نحن إذن في ميدان معركة ثقافية، ولا بدَّ من التسلح بالوعي، والصبر ووضعِ الخطط الملائمة العملية للمواجهة، فالتحسر على ما يجري لا يعود بأية جدوى، ومجرد النقد والنوايا الحسنة لا يكفيان. يقول أمبرتو إيكو في روايته مقبرة براغ: "إلى الجحيم.. تقود النوايا الحسنة عندما لا تأخذ بعين الاعتبار واقعَ الأشياء وتدرس جيداً".

ولديَّ مقترحات مرتجلة أو مطبوخة على نار عاجلة:

  1. أن يتمسك الجيد بجودته كما تتمسك الشمس بضوئها والوردة الجورية بجمالها.
  2. أن يكون هناك مستشارية تخطيط لهذه المنصات تقترح ما يشبه دستوراً للعمل أو خطوطاً عريضة يُستأنَس بهديها وأدبياتها في هذا التيه الألكتروني الواسع.
  3. أن تُجرَى ندوات في الفضائيات يشترك فيها الجمهور لتسليط الضوء على الجيد والفاسد من المنصات والمواقع.
  4. أن تسهم الصحافة في الموضوع السابق ليتمَّ فرز الزبد عن الماء الفرات السلسبيل.

أخيراً.. ما سبقَ كلُّه مجرد عدسة صغيرة على هذا الموضوع الكبير، ونحن بحاجة إلى تضافر العقول والرؤى، بحاجة إلى اجتهادات عملية واقعية ميدانية، لعلنا نظفر بعلاج مناسب.