أزمة الرغبة أم أزمة الإدارة؟

2021.01.22 | 00:03 دمشق

12.jpg
+A
حجم الخط
-A

غالباً ما ينزاح الحديث عن مشروع الثورة واستمرار المقاومة الشعبية والسياسية في الحالة السورية باتجاه أمورٍ كثيرة، لعلّ أبرزها: الثبات على حق السوريين بالتغيير والانتقال من دولة الاستبداد إلى دولة المؤسسات والديمقراطية، والتمسّك بحقوقهم التي نصّت عليها المرجعيات الدولية، وعدم تجاوز حقوقهم الإنسانية التي تتمثل في وجوب الإفراج عن كافة المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، وكذلك حق عودة المُهجّرين والنازحين إلى بلداتهم ومدنهم وبيوتهم بطريقة آمنة خالية من الإكراه والقسر.

أمّا على الصعيد الميداني فيتجه الحديث نحو وجوب وقف إطلاق النار ولجم قوات النظام الأسدي وحلفائه عن استمرار عدوانهم على أرواح السوريين، وكذلك التشديد على عدم تمكين قوات النظام من الاجتياح المتكرر للمدن والبلدات السورية واستهدافها بالطائرات وقذائف المدفعية التي غالباً ما تؤدي إلى مزيد من الموت والتشرّد والنزوح.

يذهب الحديث بعموميته تجاه ما سبق من أمور لاعتقاد الكثيرين أن المسائل المذكورة تجسّد جوهر المطالب الضرورية والوسائل الإجرائية التي تتقوّم عليها عملية الاستمرار في المقاومة سعياً إلى التغيير. ما من شك في مشروعية التأكيد الدائم على تلك المسائل وضرورة الانطلاق منها باعتبارها العلامات الدّالة على المشروع الوطني، إلّا أن هذه العلامات لا يمكن لها أن تنهض من الفراغ، كما أن صداها سيخفت شيئاً فشيئاً إن لم تنبثق من ركائز مادية تحفظ لها الحياة والاستمرار، ذلك أن أيّ هدف سامٍ، أو أية قيمة عليا، سوف تتحوّل إلى مجرّد شعار ما لم تتقوّم على ركنها المادّي الحياتي الذي يمنحها القوّة والديمومة.

لقد أُتيح لقوى الثورة والمعارضة السورية ( الائتلاف والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه والفصائل العسكرية التي تحظى بتمثيل في الائتلاف) أن تمارس سلطتها على مساحة من الجغرافية السورية، بعيداً عن سيطرة نظام الأسد، واعني بتلك المساحة مناطق: جرابلس – الباب – عفرين – تل أبيض – رأس العين – إضافة إلى العديد من البلدات والقرى التابعة لها، ويوجد في تلك المناطق ما يقارب أربعة ملايين مواطن، سواء أكانوا من السكان الأصليين لتلك المناطق، أو ممّن نزحوا من مناطق أخرى، ومن المفترض أن تكون تلك المساحة الجغرافية المأهولة بالسكان، هي المجال الحيوي والحيّز المادي الفاحص لقدرة كيانات المعارضة السياسية والعسكرية على إدارة تلك المناطق، باعتبار تلك المناطق تُعدّ محميةً من أي عدوان مسلّح من النظام وحلفائه، وذلك نتيجة التفاهمات الدولية الراهنة وتقاسم النفوذ داخل الجغرافية السورية.

بالطبع، لن نتحدث في هذا السياق عن مقوّمات كاملة للدولة، ولن نتحدث عن بناء نظام اجتماعي وإداري وتنظيمي يوحي بأن القضية السورية يمكن اختزالها بتلك المساحة الجغرافية المذكورة، ليقيننا التام بأن الحلول الجزئية ( المناطقية) ليست سوى إجراءات مؤقتة ولكنها ضرورية، بهدف الحفاظ على المقوّمات الأولية لحياة المواطن، ولعل هذا ما يجعلنا نقف عند مسائل محدّدة دون سواها، باعتبارها أولويات حياتية لا يمكن تجاوزها، ولعل أبرزها:

1 – المسألة الأمنية: لقد تمكّنت فصائل الجيش الحر، بمساندة ودعم الحكومة التركية من طرد تنظيم داعش من منطقة جرابلس في صيف 2016 ، ثم تلا ذلك طرد التنظيم ذاته من مدينة الباب ( شباط 2016 )، وفي خطوة لاحقة، ونتيجة لتفاهمات روسية – تركية ، طُردتْ سلطات حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd ) من عفرين، وفي صيف 2019 تمكّنت القوات التركية بالتنسيق مع فصائل (الجيش الوطني) من السيطرة على تل أبيض ورأس العين.

إلّا أن هذه السيطرة الميدانية على تلك المناطق وأريافها لم تترافق مع سيطرة أمنية من شأنها أن تكون مبعث اطمئنان للمواطنين، إذ ثمة حالة شبه مستدامة من الخوف لدى المواطنين نتيجة الفلتان الأمني والفوضى العارمة، فضلاً عن الاختراقات الأمنية التي تقوم بها جماعات إرهابية من خارج تلك المناطق، إذ إن مسلسل المركبات والصهاريج والدراجات المفخخة التي تنفجر ضمن الأسواق والأماكن العامة، والتي تودي بحياة المواطنين باتت أمراً مألوفاً، فضلاً عن التجاوزات والممارسات المشينة التي يقوم بها أفراد من ضمن الفصائل العسكرية بحق المواطنين، وذلك بسبب غياب الرادع وسيادة الفوضى وغياب الانضباط.

قد يكون من الصحيح أن ثمة نظاماً أمنياً تشرف عليه الحكومة المؤقتة، وقوامه جهاز الشرطة المدنية، والشرطة العسكرية، إضافة إلى جهاز قضائي، إلّا أن هذه المنظومة الأمنية ما تزال هشة و ضعيفة لافتقارها إلى المهنية أولاً، وكذلك لاعتمادها على عناصر تفتقر إلى الخبرة والاختصاص، علماً أن المئات من الضباط والمختصين المنشقين عن جيش النظام ما يزالون في حالة تامة من التهميش والاستبعاد، أضف إلى ذلك كله التغوّل الذي يمارسه بعض قادة الفصائل وأمراء الحرب وبعض الزعران الذين يرون مصالحهم فوق مصلحة الوطن والمواطنين.

2 – التعاطي الارتجالي مع الأزمات: تكشف الكوارث الإنسانية التي يتعرض لها النازحون في مخيمات الشمال السوري عن مدى الاستهتار واللامبالاة التي تبديها الكيانات الرسمية للمعارضة حيال ما يواجهه المواطن، خاصة إذا كان عدد النازحين في الشمال السوري يتجاوز المليوني نازح، مليون منهم نزح في شباط 2020 نتيجة الاجتياح الروسي الأسدي لريف إدلب الجنوبي وسراقب ومعرة النعمان وكفرنبل، وهؤلاء لا نشعر بمأساتهم إلّا حين نرى الخيام تتقاذفها السيول والعواصف، وينفر مَن بداخلها إلى العراء تحت وابل الأمطار والثلوج ولسْع البرد القارس، وحينئذٍ فقط، تبدأ نداءات الاستغاثة والعويل، تزامناً مع بيانات الإدانة لسكوت أو تقصير المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية المعنية، علماً أن مأساة النازحين جرّاء العوامل الطبيعية تتكرر كل عام، كما أن عدداً من المخيمات العشوائية أصبح عمره ما يقارب ثماني سنوات.

ماهو مؤكد أن الاحتياجات الإنسانية للنازحين تتخطى القدرات والإمكانيات المادية للكيانات السورية القيادية، إلّا أن هذا الأمر بالذات هو ما يدعوهم لتجاوز التعاطي الارتجالي مع الأزمة، ويدفعهم نحو التفكير للعمل المخطط والمدروس على مدار العام بغية إيجاد مشاريع وبرامج مشتركة بالتنسيق مع جهات دولية أو أطراف مانحة، بغية تلافي الكارثة قبل وقوعها.

يحرص الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في خطابه الإعلامي على أنه معنيٌّ بحياة ومصير جميع السوريين، ولا يخفي تضامنه، بل تماهيه مع معاناة جميع السوريين، بمن فيهم الذين يقيمون في مناطق سيطرة نظام الأسد، إيماناً منه بوحدة القضية السورية ووحدة شعبها، إلّا أن الترجمة الحقيقية لمصداقية هذا الادّعاء تكمن في قدرة الائتلاف على إدارة ما يواجهه المواطنون من أزمات في بقعة جغرافية لا تتجاوز عشرين بالمئة من الجغرافية السورية.

لا أحد يمكنه الادّعاء بأن الائتلاف أو الحكومة المؤقتة يمتلكان الإمكانيات المادية الكافية للنهوض بجميع ما يحتاجه النازحون السوريون، أو غير النازحين، ولكنهما قادران – أو هكذا يُفتَرض – على تشخيص وتحديد الأزمة، ومن ثم الشروع في دراستها، ووضع الخطط وإيجاد البرامج والقيام بالتنسيق مع الجهات المعنية، وذلك من خلال عدد كبير من المهنيين وأصحاب الاختصاص من السوريين، وهم كثر، إلا إذا كان الائتلاف مصراً على إغلاق الباب على ذاته.

حين يتحدث الكثير من السوريين عن ضرورة إعادة بناء (البيت الداخلي) للثورة، كشرط لبقائها واستمرارها، فذلك لا يعني أبداً أن دعائم هذا البيت تتمثل بأطره السياسية وهيئته التفاوضية ولجانه الدستورية فحسب، بل بمقوّماته الإدارية والتنظيمية حين تكون قادرة على تلبية احتياجات الناس، تلك الاحتياجات التي تعدّ هي الناظم الأول لأي مشروع وطني.