لم تكن الاعتقالات التي قام بها نظام الأسد-على مدار سنوات سيطرته على سوريا بالقوة- مجرد إجراءات احترازية ضد خصوم سياسيين يشكلون قلقاً وجودياً له أو خطراً عليه، فالاعتقال بحد ذاته هو قيمة أساسية من قيم نظام الأسد ولا يرتبط مباشرة بأسباب محددة أو بأفعال يقوم بها المواطن تدفع لاعتقاله، فكثيراً ما قام النظام باعتقالات تتأسس فقط على شهوة السلطة وشهوة الإحساس بممارستها.
وربما كانت طرق الاعتقال وأساليب التعامل مع المعتقلين دليلاً كافياً على ذهنية النظام المتوحشة والتي تصنف المواطنين على أنهم مجرد مملوكين وعبيد لسلطته مهما علا شأن المواطن ومهما كانت درجة براءته ومواطنيته، بل إن معظم الاعتقالات السياسية التي قام بها النظام على مدار تاريخه كانت بحق الشخصيات الأكثر وطنية والأكثر حرصاً على الوطن..
وخلال تاريخ سلطة الأسد، كان الطريق الوحيد المتاح أمام المواطن لتجنب الاعتقال هو إعلان ولائه التام للرئيس ومدحه وتمجيده علانية
وخلال تاريخ سلطة الأسد، كان الطريق الوحيد المتاح أمام المواطن لتجنب الاعتقال هو إعلان ولائه التام للرئيس ومدحه وتمجيده علانية، وبهذه الحالة فقط يمكن أن يكون في مأمن من أجهزة الأمن والمخابرات، هذا ما يعتقده كثيرون، ولكن الحقيقة أن النظام جاهز للتضحية بأي من أتباعه إن اقتضت مصلحته ذلك، فنظام الأسد لا يؤمن بالعواطف، وليس من طبعه رد الجميل لمن يضحي من أجله، ولا يقابل الولاء بالوفاء، فالولاء للرئيس بالنسبة له واجب وطني متفق عليه وهو أول وأهم درجات المواطنة، بل هو الشرط الوحيد الذي يستحق السوري من أجله البقاء على قيد الحياة..
في هذا السياق يعتقد الموالون للنظام السوري، ولا سيما كبار الشبيحة الذين لم يتوقفوا عن دعم بشار الأسد منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، أنهم يتمتعون بحصانة كافية تبعدهم عن أي مساءلة أمنية فيما لو ارتكبوا خطأ أو زلة لسان أو عبروا عن موقف ما بطريقة لا تتناسب كلياً مع رواية النظام، ويعتقدون أيضاً أنهم مصدر ثقة النظام الكاملة وأن النظام يعاملهم على أنهم فوق الشبهات..
يعتمد هؤلاء على رصيدهم المدور في بنك التشبيح باعتباره رصيداً مفتوحاً وغير قابل للنفاد، ويستندون إليه كواقٍ منيع من غدر الأسد وبطش مخابراته.
من هنا تأتي جرأة بعض كبار الموالين في الانتقاد ولا سيما ما يتعلق بنقد الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدمية والإشارة صراحة إلى انتشار الفساد والفاسدين بمن فيهم شخصيات حكومية رفيعة.
الشرط الأكثر أهمية لقبول المخابرات الانتقادات الصادرة عن مؤيدي النظام هو التركيز على تبرئة القيادة والتمييز بين الحكومة والقيادة والإقرار بقدسية القيادة -متمثلة في شخص بشار الأسد- ومعصوميتها عن الخطأ والترويج لتلك الفكرة كحقيقة ثابتة وأن القيادة هي من يعول عليها محاسبة الحكومة، فالحكومة في سوريا لا صلاحية لها ولا ضرورة، ومهمتها الوحيدة هي حمل أخطاء النظام وتحمل تبعات فساده، وبالتالي فإن هوامش الانتقاد التي تطول النظام هي في الواقع لا تخترق السقف المحدد لهوامش الحرية المتاحة للموالين، بل إن انتقاد الحكومة والتعويل على القيادة في محاسبة الحكومة أمر يصب في السياسة العميقة للنظام، وهو ما يمنح المؤيدين الأمان ويعطيهم "فيزا" مفتوحة الصلاحية للدخول إلى كل المناطق التي تعتبر محرمات لا يمكن الاقتراب منها بالنسبة لعامة الشعب..
ولربما كانت الخدعة الأكبر التي يعيشها المؤيدون هي اعتقادهم بأن النظام يحترمهم ويقدر مواقفهم ويبادلهم مشاعر الولاء والوفاء، وخصوصاً صغار المؤيدين والموالين السذج المؤمنين برواية النظام نتيجة للتلفيق الإعلامي الذي حشا به أدمغتهم، قي حين أن الحقيقة الدامغة تُظهر احتقار النظام لمؤيديه وتصنيفهم كأعداء محتملين ومراقبتهم باستمرار من دون أن يغفر لهم زلة لسان واحدة إن خرجت عن السياق المحدد، رغم أن الموالين المسموح لهم بانتقاد الحكومة وفسادها يعرفون جيداً الخطوط الحمر، بل الخط الأحمر الوحيد وهو رأس النظام، أما ملحقاته المتمثلة في الجيش والعلم فلا قيمة حقيقية لها وتأتي للتخفيف من لون الخط الأحمر لإعطاء بعض الصدقيّة للخطوط الحمر.
يعرف النظام جيداً مدى التلفيق والكذب وكمّ الزيف في مروّيته التي صنعها بنفسه، ولذلك فهو لا يصدق أن أحداً من السوريين يؤمن حقيقة بتلك الرواية ويتبناها، بيد أنه يحدد ثلاثة مستويات للولاء وثلاثة أنواع للموالين، ويصنفهم على النحو الآتي: أولهم: السذج، وهؤلاء يحبهم النظام كثيراً في العلن ويحتقرهم في سره لفرط سذاجتهم رغم إعلان ولائهم، وثانيهم: الخائفون وهم أيضاً محتقرون من قبل النظام باعتبارهم جبناء بحسب تصنيفه ولكن جبنهم مطلوب ومرضي عنه، وثالثهم: أصحاب المصالح الذين يعون ذلك التلفيق ويتواطؤون من أجل الحفاظ على مكاسبهم المتأسسة على تأييد النظام والولاء له، وهؤلاء محتقرون بدورهم من قبل النظام الذي يعرف بالطبع مدى التسلق والتملق والانتهازية التي يتمتع بها هؤلاء المنافقون، ويعرف تماماً أنهم يتواطؤون لتصديق كذبه وزيفه، وهم يعلمون أنه يعلم ذلك، وهو يعلم أنهم يعلمون، ولكن كل ذلك لا يفسد للود قضية، فما يهم النظام هو الالتزام ظاهريا بمحبته ومديحه وروايته..
في هذا السياق تبدو قضية اعتقال الناشط الموالي بشار برهوم غامضة ومريبة، حيث راكم برهوم عبر سنوات طويلة أدلة ولائه لرأس النظام ولم يخرج عن ذلك الخط حتى قبل اعتقاله المزعوم، بل لم يكن اعتقاله -إن كان حقيقياً- بسبب الإساءة إلى نظام الأسد بشكل مباشر، وإنما بسبب إعلانه -ظاهرياً- عداءه لإيران واعتبارها العدو الأول لسوريا ومطالبته بخروجها منها..
وكما عرف عن الموالين للأسد كذبهم ودجلهم وتذبذبهم، عرف عنهم أيضاً علاقاتهم مع الأجهزة الأمنية، ولذلك يظل موقف برهوم ملتبساً ومدعاة للعديد من التفسيرات، فلربما جاء بدفع من النظام نفسه، وربما كان الرجل يبحث عن تفرد، أو عن دور، وربما اعتقد أن أسهمه ارتفعت لدى النظام بما يضمن أنه لن يقدم على اعتقاله، أو أنه اعتقد أن موقفه من إيران سيسعد النظام الذي لا يجرؤ أن يعادي إيران بالعلن حتى وإن تحول وجودها في سوريا إلى عبء عليه..
في هذا السياق لا يمكن استبعاد رغبة النظام في إعطاء شهادة وطنية لبرهوم من خلال اعتقاله ولا سيما أمام معارضة الداخل بهدف دسه بين صفوفها وخصوصاً أن الساحل السوري اليوم بدأ يشكل بعض التخوف، ولا بد من زراعة بعض الجواسيس لكسب ثقة المعارضين بما يسهل اختراقهم..
كل الاحتمالات مفتوحة في قضية بشار برهوم، بما في ذلك -ولو بنسبة صغيرة- أن يكون برهوم قد قرر الخروج تدريجياً من ركب النظام، ولكن من شكك بالثورة السورية واتهمها بكل الاتهامات وسخر من ثوارها على مدار سنوات، ثم سخر وكذب واتهم ثورة السويداء، ومن برّأ الرئيس ولم يقبل أن ينسب له خطأ واحد فيما يتعلق بكيفية معالجة الأسد للحدث السوري، من فعلَ كل ذلك لا يمكن أن يتغير ما بين ليلة وضحاها..
قد يفرج عن برهوم في أقرب فرصة، وقد تكون قضية اعتقاله لا أساس لها من الصحة، وقد تكون خبراً متفقاً عليه، وقد تكون تصريحاته نفسها قد تمت بتكليف من النظام، كل تلك الاحتمالات واردة، ولكن شهادة الوطنية لا يمكن أن تمنح للسوري ما لم يعد علانية ترتيب الرواية بما يتفق مع الوقائع الحقيقية التي يعرفها كل السوريين، ورغم اتفاقنا مع برهوم بشأن موقفه من إيران واعتبارها العدو الأول لسوريا، فإن القفز على الأسد كمسؤول وحيد عما آلت إليه الحال في سوريا، وكمسؤول عن دخول إيران وروسيا وغيرهما من القوى إلى سوريا، سيجعل كل تلك الانتقادات التي صرّح بها برهوم مجرد حالة بحث عن الشهرة أو التميز في أحسن الأحوال..
ليست المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال مؤيد من كبار الشبيحة، فقد سبقت لمى عباس زميلها برهوم إلى زنازين النظام، ولو كان لدى النظام أي شك بأن عباس ضد شخص الرئيس لما خرجت من المعتقل رغم رصيدها الطويل بدعم السلطة بكل الممارسات الدموية لتلك السلطة..