لا تأتي أهمية كتاب "فلاحو سوريا: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم" من دراسة أحوال الفلاحين في سوريا، وتصنيفاتهم، والتغيير الذي طرأ عليهم بعد سيطرة حزب البعث على السلطة، فهذا لم يحتل إلا نحو ثلث الكتاب، بل من الحديث المفصل حول صعود حزب البعث كحزب ذي أصول فلاحية، مع أن مؤسسَيه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار كانا من برجوازيي دمشق، ولكن الحزب ظل غريباً في هذه المدينة، وعصياً عليها، "فهي مدينة التاريخ العربي التي لا تسلم قيادها إلا لعاشق على قد فتنتها، لذلك بقي نشاط البعث محصوراً في الأرياف وكبر جسمه بينما بقي رأسه صغيراً"، كما يقول سامي الجندي في كتابه "البعث".
أول رئيس من أصول فلاحية
الكتاب صدر باللغة الإنكليزية عام 99 من القرن الماضي، وتمت ترجمته من قبل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2014، يتناول بشيء من التفصيل صعود البعث كحزب للعمال والفلاحين، وعمليات التصفية التي تمت بين الرفاق، وخلفيات هؤلاء الرفاق الاجتماعية، حتى وصل حافظ الأسد إلى سدة الحكم كأول حاكم لسوريا من أصول فلاحية، كما قال حنا بطاطو، ثم يأتي التفصيل لمسيرة حافظ أسد في الحكم، حيث سأركز على علاقته بالقضية الفلسطينية، التي لطالما اقتات عليها نظام الأسدين، ومن هنا برأيي تأتي القيمة المضافة للكتاب، فالمؤلف حنا بطاطو هو باحث في التاريخ من مواليد القدس، هاجر إلى الولايات المتحدة عام النكبة، ليدرس في جامعاتها، ثم يعود مدرساً للتاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، فجاء كتابه هذا حسب مناهج البحث الحديثة في التاريخ، مع التركيز على التفاصيل التي لا يعرفها إلا أهل المنطقة، وحنّا أحدهم.
دراسات سابقة
العديد من الباحثين الغربيين، تناولوا النظام السوري وتركيبته مركزين على العصبوية التي ساهمت في بقاء النظام، كميشيل سورا في كتابه سوريا المتوحشة والتي حاول فيها تفكيك البنية الطائفية للنظام عبر تطبيق نظرية ابن خلدون حول الحكم، التي تتكون من العصبية والدعوة والمُلك، وعلى ذات المنهج سار الباحث النيوزلندي ليون غولد سميث في كتابه "دائرة الخوف العلويون السوريون في السلم والحرب، مع التركيز على تاريخ الطائفة العلوية، ثالث الكتب المهمة برأيي هو كتاب الدبلوماسي والمستشرق الهولندي نيكولاس فاندام "الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة"، وفي هذا الكتاب تنبأ منذ عام خمسة وتسعين من القرن الماضي أن النظام لن يتنازل أبداً عن السلطة نتيجة الكم الهائل من القمع الذي ورّط النظام به العلويين، فيما لا يعد كتاب الصراع على الشرق الأوسط لباتريك سيل سوى كونه نقلاً احترافياً لسيرة حافظ الأسد ووجهة نظر نظره في الحكم.
ملفات مهمة من جانب واحد!
بالعودة إلى القضية الفلسطينية، الحامل الرئيسي لنظام البعث، والحاضرة بقوة في أدبياته وشعاراته، وهذا الجانب من الكتاب هو ما سأركز عليه في هذه المراجعة على جزأين.
الكاتب الفلسطيني يقول إنه اطّلع على ملفات مهمة حول علاقات منظمة التحرير الفلسطينية، وأجرى لقاءات مع كبار قادتها، ولكنه بالمقابل لم يتمكن من فعل ذات الشيء بالنسبة للنظام السوري، الذي لا يقبل بفتح ملفاته، وحتى خلال الجولات الميدانية التي قام فيها الباحث في سوريا، كان يتخفى خوفاً من الاعتقال.
جبريل ومحاولة اغتيال عرفات
تبدأ العلاقة بين فتح والبعث منذ عام 1966، وحينها طلب أحمد جبريل، "الذي ينظر له القادة الفلسطينيون كأداة بيد المخابرات العسكرية السورية" أن يتم توحيد حركتي فتح والجبهة الشعبية، فوافق ياسر عرفات، ولكن إصرار جبريل على تسلمه القيادة العسكرية أدى إلى رفض عرفات للاندماج، وعلى إثرها حاولت القيادة البعثية اغتيال عرفات عبر عميل فلسطيني لها يُدعى يوسف عرابي، الذي دعا أبا عمار للاجتماع به في شارع ابن عساكر، ولكن عرفات شعر بالمخطط فأرسل رسولاً له برفقة حارسه الشخصي، ولكن المكلف بعملية الاغتيال شك في أن يوسف عرابي قد أفشى سر الخطة، فأطلق النار عليه وعلى رسول عرفات. على الفور أمر حافظ الأسد الذي كان حينها وزيراً للدفاع باعتقال كامل أعضاء قيادة فتح المقيمين في دمشق، ومن بينهم ياسر عرفات، ومساعده العسكري خليل الوزير، حينها حمَّل حافظ أسد ياسر عرفات مسؤولية مقتل عرابي، واصفاً أبا عمار إياه بالعميل المصري، وأن أعضاء فتح إخوان مسلمون أو بعثيون مرتدون. ولم يطلق الأسد سراح القادة إلا بشرط مغادرة سوريا.
بعد ذلك أقدم حافظ أسد على دعم فتح حتى بالسلاح كي تكون نداً لقوات الصاعقة الفلسطينية التي أسسها صلاح جديد، وذلك في إطار التنافس على السلطة بين الاثنين.
دور الأسد في أيلول الأسود
حركة فتح استطاعت عام 1968 بمساعدة الجيش الأردني أن تهزم الإسرائيليين الذين كانوا يحاولون أن يتوغلوا شرق الأردن في معركة الكرامة، وهذه كانت المرة الأولى التي يهزم فيها الإسرائيلون، ورفعت أسهم فتح كثيراً، وهذا ما لم يرق للملك حسين، الذي تلقى أوامر أميركية بالقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية على أراضيه في شهر أيلول من عام 1970، ووقعت حينها اشتباكات بين الطرفين، انتهت بسيطرة الجيش الأردني وطرد الفدائيين إلى لبنان، بعد مجزرة كبيرة، سميت فيما بعد أيلول الأسود، وحينها وجهت القيادة السورية التي كان يتصدرها صلاح جديد تحذيراً للأردن بأنها لن تبقى مكتوفة الأيدي وهي ترى تصفية الثورة الفلسطينية، ووضعت كل إمكانات سوريا تحت تصرف المقاومة الفلسطينية، ودخلت الدبابات السورية إلى إربد شمال الأردن، ولكن حافظ الأسد الذي كان حينها وزيراً للدفاع رفض مشاركة الطيران السوري في هذه المعركة، وحينها اتهمه صلاح جديد بإجهاض قرار قيادة حزب البعث لحماية المقاومة، وبذات الوقت كان حافظ الأسد قد طمأن الملك حسين بأن سلاح الجو السوري لن يتدخل، عبر مساعد الملك وصفي التل، ولم يمضِ على هذه الحادثة سوى شهرين، حتى انقلب حافظ على رفاقه الذين رفضوا انقلابه في تشرين الثاني من ذات العام وأودعهم السجن، حتى وافتهم المنية.