طوبى للناجين من هذه العلل

2022.02.23 | 05:55 دمشق

19-02-22-543295106.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عام 2007 أقام مجمع الإفتاء في سوريا حفل إفطار رمضاني خاص لتكريم مجموعة من العاملين في الدراما السورية الرمضانية، كان الأمر مفاجئا، ذلك أن ثمة تعارضاً لا ينكره ولا يتجاهله أحد بين المؤسسة الدينية والعمل في مجال الفن الذي لطالما اعتبرته المؤسسة الدينية (حراما)، رغم أن دار الإفتاء السورية لطالما كانت أكثر انفتاحا وقبولا للفنون من باقي التجمعات الدينية في سوريا، أو من دوائر الإفتاء في باقي العالم العربي، ومع ذلك كان هذا الحدث استثناء لا سابقة له، ولكن إن عرف السبب بطل العجب كما يقولون، كان الإفطار التكريمي خاصاً بصناع مسلسل باب الحارة، الممثلين والمخرج بسام الملا الذي رحل عن عالمنا قبل أسابيع، وباقي صناع المسلسل من فنيين ومنتجين إلخ، أما سبب التكريم الاستثنائي ذاك فقد كان بسبب أن مسلسل باب الحارة قد رسّخَ قيم الأصالة والتراث في سوريا.

ولم يقتصر تكريم صناع المسلسل وأبطاله على المؤسسة الدينية السورية فقط، بل كرّم في غير مؤسسة دينية في عواصم عربية عدة، ودائما كان العنوان هو أن باب الحارة أعاد إلى الواجهة قيم الأسرة العربية وأخلاقها، وطبعا نعرف جميعا كيف قدم باب الحارة الأسرة الشامية والعربية المقصودة: عالم منغلق على ذاته برجال يمارسون ذكورية مطلقة ويعتزون ببطولات وانتصارات (أخلاقية)، ونساء خانعات خاضعات للرجال ويتآمرن على بعضهن بعضاً ويتسابقن في عرض فنون وطرق إرضاء الرجل، والذي ربما قد يكون متزوجا من أكثر من زوجة يعشن في المنزل نفسه مع أولادهن منه، ولا غضاضة طبعا في أن يهين الزوج إحداهن أو يضربها تأديبا لها، أو يمنعها من زيارة أهلها (المكان الوحيد المسموح للنساء أن يذهبن إليه في باب الحارة )، عقابا لها على عصيانها لأمر من أوامره، شيء يذكر بالنظرة الاستشراقية الغربية للمجتمع العربي، تلك النظرة التي كانت مرجعيتها الأساسية كتاب ألف ليلة وليلة، رغم أن نساء ألف ليلة وليلة كنّ أكثر تحررا وانفتاحا وذكاء أنثويا من نساء باب الحارة، لكن الكتاب الشهير ظل وقتا طويلا إحدى أهم المرجعيات للمستشرقين الغربيين عن الأسرة العربية، والمجتمع العربي عموما، رغم أن باب الحارة كان أكثر رجعية بكثير من ألف ليلة وليلة، خصوصا أن الزمن الذي قدمه المسلسل عن (الشام) لم يكن فيه المجتمع بصورة المسلسل بل كان أكثر تطورا وتحضرا وأكثر حضورا للنساء اجتماعيا وثقافيا وعلميا.

يشبه رجب في فيلم صراع في الميناء رجال باب الحارة من حيث النظرة إلى النساء المحيطات بهم، ويشبه فهم حميدة للحب فهم نساء باب الحارة له

قبل باب الحارة بسنوات طويلة أخرج الراحل يوسف شاهين فيلمه الشهير (صراع في الميناء) بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف وأحمد رمزي، حيث يتنافس رجب وممدوح على حب حميدة، ورغم أن ممدوح (الغني) يعاملها كملكة، لكنها تعترف لخالتها والدة رجب أنها تحب رجب الذي (يشخط وينطر) بها دائما ويعاقبها ويضربها حين تخطئ، فهو يقوم بدور والدها الذي مات وهي ما زالت صغيرة، ورجب (ابن البلد) الفقير يفهم كيف تفكر، ويعرف متى عليه معاقبتها أو ضربها حين تستحق ذلك، يعاملها رجب ابن خالتها الفقير كملك يمينه، بينما ممدوح الغريب الغني يعاملها كسيدة مستقلة ذات كيان يجب أن يحترم، وهو ما لم تعتد عليه في بيئتها وعالمها، لذلك تستغرب حميدة في الفيلم أن تسألها خالتها من تحب من الشابين، ذلك أنه إحدى البديهيات أنها تحب الشاب الذي يعاملها بوصفها ملكا له، فهذه الملكية وما يتبعها ليست سوى دليل مؤكد على الحب.

يشبه رجب في فيلم صراع في الميناء رجال باب الحارة من حيث النظرة إلى النساء المحيطات بهم، ويشبه فهم حميدة للحب فهم نساء باب الحارة له، رغم أن حميدة في الفيلم الذي قدم عام 1956 تخرج وتعمل في مجتمع كله ذكور من دون أن يشكل ذلك مشكلة بالنسبة لرجب، الذكر الوحيد في عائلتها، رغم كل رجعية تفكيره بالعلاقة مع المرأة. وفي الحقيقة فإن السينما المصرية قدمت نماذج عديدة للعلاقة المرضية بين الرجل ونساء عائلته، نتذكر جميعا سي السيد وأمينة في فيلم بين القصرين المأخوذ عن الرواية الأولى في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، ونتذكر مشاهد كثيرة نرى فيها الزوجة سعيدة حينما يقوم الزوج بضربها أو معاقبتها، كما نرى عائلتها تتعامل مع الأمر بوصفه بديهية، أو دليلا مؤكدا على حبه لها، وقد تطلق الأم (زلغوطة) حينما ترى ابنتها تضرب وتهان من قبل زوجها، كما في فيلم (أنت حبيبي) إخراج يوسف شاهين أيضا وبطولة فريد الأطرش وشادية، إذ كلما أمعن الرجل في عقاب زوجته وإهانتها كان بذلك يؤكد عمق ارتباطه وتعلقه بها، فهو لن يقوم بمعاقبة امرأة لا تعنيه ولا يهتم لأمرها، في حين أنه سيفعل ذلك، بمباركة مجتمعية، مع نساء عائلته: زوجة، ابنة، أخت، ابنة عم، كل النساء اللواتي ترتبط أسماؤهن باسمه، يحق له معاقبتهن، وبينما تظن تلك النساء أن هذا ليس سوى تعبير عن الحب والاهتمام فإن الأمر نفسيا مختلف تماما، ذلك أن الرجل حين يعاقب نساء عائلته على ما يراه خطأ اقترفته إحداهن فهو بذلك يعلي من شأن ذكوريته التي يعززها أمام المجتمع حفاظاً على الشرف، فما الذي سوف يجعل رجلا يغضب من زوجته إذا ما تأخرت قليلا في العودة إلى المنزل سوى الخشية من أن تصبح تلك عادة من عاداتها التي سيراها المجتمع المحيط بوصفها نشوزا عن التقليد، ما يستدعي غضبه وعقابه لها، تماما كما تفعل أية سلطة أو نظام حاكم بمن يتمرد قليلا على المعتاد، يتصرف الرجل الشرقي بوصفه صاحب السلطة، الحاكم، ونساء عائلته والأطفال هم المحكومون، ويسلك معهم نفس السلوك الذي يسلكه صاحب السلطة الأعلى معه، في تراتبية قمعية مدهشة لفرط دقتها وقدرتها على أن تصبح سيرة طويلة ممتدة منذ قرون ومستمرة حتى الآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين الذي يصل فيه التقدم العلمي من جهة، والحريات الفردية والجنسية من جهة أخرى إلى مراحل لم تكن حتى في الخيال قبل عقد واحد من الزمن.

المدهش هو أن يتحول العريس المعنف إلى نجم للإعلام المصري والعربي، وبدلا من أن يعاقب باسم الحق العام حتى لو رفضت الزوجة تقديم شكوى ضده، فهو يحظى بدعم حتى من إعلاميين

من هذه التراتبية يمكننا فهم سلوك العروس المصرية التي أشبعها عريسها ضربا وإهانة مع أفراد عائلته وأمام مئات المارة الذين لم يتدخل منهم أحد لردعه وإنقاذ العروس التي كان ذنبها الوحيد أنها تأخرت في صالون التجميل نصف ساعة عن موعد الزفاف، ليس المدهش أنها تقبلت تلك الإهانات والتعنيف العلني واعتبرته طبيعيا وأمرا معتادا في بيئتها، ذلك أنها تربت فعلا على قبول ذلك ولم تكن تكذب في قولها، المدهش هو أن يتحول العريس المعنف إلى نجم للإعلام المصري والعربي، وبدلا من أن يعاقب باسم الحق العام حتى لو رفضت الزوجة تقديم شكوى ضده، فهو يحظى بدعم حتى من إعلاميين يفترض بهم التحلي ببعض الوعي والثقافة، متشابهين في ذلك مع أصوليين مخلصين لأصوليتهم، ويستغلون حوادث مشابهة وتصريحات من مثقفين لتأكيد ما يؤمنون به.

ليس غريبا أن تكرم مؤسسات دينية مسلسلا مثل باب الحارة ذلك أنه يعزز سلوكا مجتمعيا يناسب رؤيتها للمجتمع، وليس مستغربا أن يتحول الإعلام العربي في أغلبه إلى إعلام رجعي وظلامي، يجعل من مرضى المجتمع نجوما وأبطالا، ذلك أننا نتلقى، شعوبا ومجتمعات وأفرادا، الهزيمة تلو الأخرى على كل المستويات، هزائم تسرع في انحدارنا نحو الهاوية، في حين يحث العالم الخطى في اتجاه مستقبل لا نصدق نحن أنه موجود أساسا، طوبى لمن أتيح له أن ينجوَ من هذه البقعة الموبوءة بأمراضها، طوبى لمن استطاع من الناجين أن ينجوَ أيضا مما حمله معه من أمراض هذه البقعة الموبوءة، أما المصرّون على تخلفهم فلا نجاة لهم أينما ذهبوا وحلّوا.