يمثل كتاب "السلطان عبد الحميد الثاني والعالم الإسلامي" دراسة نادرة ومفصلة مُعتمدة على أكثر من أرشيف ومصادر متنوعة حول مسألة الجامعة الإسلامية ودورها في إعادة تمثيل الدولة العثمانية للمؤرخ اللبناني قيصر فرح بترجمة المؤرخ محمد الأرناؤوط (جداول، 2012) ويقع في أحد عشر فصلًا.
الجامعة الإسلامية والصحافة وعبد الحميد الثاني
تحدث قيصر فرح عن السياسة في عهد عبد الحميد وحتى الحرب العالمية الأولى، ولم يخض في بنية المجتمع والدولة والثقافة وبقية العوامل المؤسِّسة. افتتح المؤرخ فرح كتابه بحاجة ذلك العهد لتجديد مصطلح الخلافة، وأن هذا التجديد لم ينفكّ عمّا قبله، بحيث كان ثمّة صدى ما لفكرة "الجامعة" في عهد السلطان عبد العزيز (ت1876).
ونتاج الموجة القومية التي انتعشت منذ القرن الثامن عشر في البلقان وتوجّهت نحو الداخل العربي والتركي، تعرّض مفهوم الخلافة لنوع من الفوضى وعدم المفهومية. ولذلك يُفهم من فرح عدم دقّه إلصاق وصف "الإسلامية" بـ"الجامعة" بمعزل عن أي فكرة أخرى؛ لكونه يصعب حينذاك فصل الإٍسلام عن أي فكرة قومية أو وطنية كما يفعل مؤرخو النزعة الإسلامية.
يصحح فرح في الفصل الثاني أفكارا عديدة حول "الجامعة"، يشير مثلًا إلى توجيه قضية الأرمن التي نشأت في العهد الحميدي، لكونها قضية أثرت على النفوذ الإسلامي في الدولة حينذاك، ومثلها الحديث عن الكادر المتخرّج من المدارس التي بناها السلطان ليثور عليه فيما بعد.
كما بيّن دور الصحافة في تشكيل صورة السلطان، والتي كانت تمثّل الدول الاستعمارية أو النظرة الحكومية المسبحة بحمد عبد الحميد. مثّل للنوع الأول نجيب العازوري وفارس نمر، يقابلهم في مواجهة هذه الدعايات صحيفة المؤيّد وشخصيات كَمحمد عبده ومصطفى الغلاييني. ولم يغفل دور القيصر الألماني فيلهلم الثاني حتى الحرب العالمية.
الخلافة الإسلامية وأيديولوجيتها
في الفصل الرابع قد لا يصحّ وصف فرح أنّه "لم يهتم أحد قبل عبد الحميد الثاني بالخلافة"؛ لأنّه يمكن أن يُرى هذا الأمر في عهد عبد الحميد الأول (ت1789) في مواجهة روسيا في القرم، بل حتى قد يرجع لفترة أسبق بمئة عام في وثائق ممكن قراءتها في عهد السلطان محمود الأول، ولكنه مع ذلك يشدد على ازدهاره فيما بعد وتحولها إلى دعاية سياسية.
يطرح فرح مسألة مشروع الجامعة، هل يكون مشروعًا ساهم في دعم سلطة السلطان أم أنّه سبّب له القلق من تلك الدول المنافسة له؟ ونفهم من ذلك جدوى تعديه للدعاية إلى الجهاد والمقدرة على إعلانه، أو بقائه مجرد سلاح ردعي، وعن ماهية استغلال الاتحاديين لهذا الأمر بشكل متهوّر.
يبدأ فرح الفصل الخامس بالحديث عن الاستعمال السياسي لمفهوم "الجامعة" وهو لا يعتبر أن السلطان عبد الحميد قد استخدمه سياسيًّا فقط -في الدولة- مُشيرًا إلى رأي جمال الدين الأفغاني لكونه أكّد على الوحدة الدينية -خارج سيادة الدولة- وانتقاده كحلّ غير واقعي، بينما لملمة شعث الدولة سياسيًّا هو الأكثر إمكانية مع صعوبته.
أشار فرح إلى العلاقة المتشابكة للجامعة عبر تشويه الصحافة الأوروبية دعوة جمال الدين الأفغاني الوطنية لكونها دعاية لبغض الأوروبيين، ونتاج ذلك كانت هنالك بعض ردود أفعال مؤيّدي "الجامعة" في صحيفة "الشعب" بأن هذه الفكرة يجب أن تدعم الخلافة "بأن تُبعد الجامعة الإسلامية عن السياسة حتى لا تعطي حجة للقوى الاستعمارية بإعاقتها".
مثل ذلك نجد أطرافًا تدعو لمُثُل قومية إسلامية، فها هو المفكر التتري "يوسف أق تشورا" يدعو من خلال صحيفة "قازان مخبري" لتأسيس جمعيات مثل "تورك أوجاقي"، مما يدعنا نطرح تساؤلا حول ماهية المُنظّم لمثل هذه الجمعيات المختلفة، وكيفية تأثيرها في نهاية المطاف على عمل الجامعة.
مما زاد كذلك في تقويض الجامعة هو التنافس السيادي والقيادي عليها، ولو ببروز مرشّحين غير قادرين عليها، يذكر فرح أسماء مثل عبد القادر الجزائري وخديوي مصر وأمير أفغانستان، كمرشحين للخلافة في أثناء عهد عبد الحميد الثاني وبُعيد خلعه.
لعبت تيارات مثل "القوميين والعلمانيين العرب" دور المطبات والمعوّقات المناهضة لفكرة الجامعة. كما تحدّث فرح هنا عن ثلاثة مراحل متعلقة؛ الأولى بين 1909-1912 وهي مرحلة الانسجام بين العرب والدولة، ثم بين 1912-1915 بانتقال مطالبة العرب لفكرة "اللامركزية"، ثم مرحلة الثورة بين 1916-1918.
تفسّخ الجامعة ومحاولة إصلاحها
وضمن الفصل السابع الذي جاء فيه على ذكر الوجود الإسلامي في المستعمرات الأوروبية، وأثره على التحالفات الأوروبية مع حكومة إسطنبول، كان أثر الألمان على فكرة الجامعة إيجابًا أكثر من ذاك الدور السلبي الإنكليزي بطبيعة الحال عليها.
طرح فرح مجموعة من أفهام الدول الأوروبية لفكرة "الجامعة" تدرّجت من المواقف المتطرفة التي تعتبر العثمانيين لديهم سعي للهيمنة على الجنس البشري وصولًا نحو تلك الآراء المترددة التي تعتبر الجامعة الإسلامية مجرد فكرة دينية لا يمكن تطبيقها مثلها مثل الجامعة السلافية والألمانية حينذاك.
في الفصل الثامن يستكمل الحديث عن جدلية الانهدام والإصلاح، وذكر العديد من المصلحين الذين حاولوا رأب صدع الخلافة من مصر والشام وبيروت وحتى الهند وإيران، مثل عبد الغني شهبندر في بيروت ومحمود المأمون الأرزنجاني في المجال الإيراني الهندي، وخالدية صالح في تونس الذي حذّر من مشاريع التجزئة وتوزيع حصص السيادات على حكّام أصغر.
لم ينسَ المؤلف تسليط الضوء على استغلال الدين من قبل سياسة الأتراك الجدد، بحيث كان لهم تعيينات لشيوخ الإسلام الموافقين لنظرتهم كخيري بك وموسى كاظم أفندي، بحيث يدل على نوع بائن من ضعف هذه المؤسسة وكونها مجرد جزء من منظومة استبداد كليّة في دولة الاتحاديين
لفت فرح الاهتمام باستخدامه عنوان مثل "تأثير المعارضة الماسونية واليهودية"، وهو مما يبدو من طرحه وجود نوع من الموضة للمحافل الماسونية في ذلك العصر، وهذا مهمّ يمنع الخلط الذي يكتب في الأدبيات الماسونية بحيث يجعلها كلّها في كيس واحد وينسج منها نظريات المؤامرة.
بحكم علاقة فلسطين بفكرة الجامعة كان لابد من تطرق فرح لهذه القضية، فهو أشار إلى أن التيقّظ بالحركة الصهيونية يحتاج للمزيد من البحث، ولكنّ المؤلف أظهر بالفعل أن هذا الوعي كان موجودًا واستدل عليه بعدد من جريدة "المقتبس" تعود لعام 1910، وكيف أنّ إهمال البيروقراطية كان أهمّ ثغرة يمكن أن نفهم منها ولوج الحركة الصهيونية لفلسطين.
راديكالية الاتحاديين وانتحار الدولة
في الفصل العاشر يتحدث فرح حول المطاف الأخير للجامعة، وأن الاتحاديين هم من قاموا بدقّ نعشها الأخير، وكيف تسببوا في تتريك وتحريف مسار هذه "الجامعة" بضيق أفقهم بعد خلع السلطان وحتى دخولهم الحرب.
يختم بالفصل الأخير بأن سياسة الاتحاديين قد فشلت فشلًا ذريعًا في إدارة "الجامعة"، وأنها لم تكن كما في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وإن لم تكن جهود الأخير مثالية، فإن تلك السياسة الضيّقة الأفق حطّمت بالتالي دعوة الجهاد وفق الرؤية (الكفائية/ الدعائية) إلى الهجوميّة، مما كشف عيوب الجامعة في مثل هذه الظروف المعقّدة وغير المؤاتية لحرب ذات تكاليف كبيرة.
لم ينسَ المؤلف تسليط الضوء على استغلال الدين من قبل سياسة الأتراك الجدد، بحيث كان لهم تعيينات لشيوخ الإسلام الموافقين لنظرتهم كخيري بك وموسى كاظم أفندي، بحيث يدل على نوع بائن من ضعف هذه المؤسسة ولكونها مجرد جزء من منظومة استبداد كليّة في دولة الاتحاديين مما سرّع في عملية سقوط الدولة كنهاية دراميّة.
في الحرب العالمية الأولى كان الرحالة والمستشرق الألماني ماكس فون أوبنهايم هو المسؤول الأهم عن تصنيع أيديولوجيا "الجامعة"، وكانت خطة ألمانيا تسعى للتأسيس على قاعدة كره المسلمين لمستعمريهم الإنكليز والروس والفرنسيين وحشدهم ضدّهم.
لذلك يشير فرح إلى حرب مراكز الأبحاث والمؤسسات والجمعيات البريطانية والفرنسية قبالة الألمانية، والتي تكاثرت لفهم الحالة الإسلامية منذ العهد الحميدي وليس انتهاءً بالسفربرلك، وفي خضمّ هذه "الأجواء البحثية" لم تهدأ الصحف المؤيّدة ولا المخالفة للدولة العثمانية داخليًا وخارجيًا.
ويختم فرح بأن العديد من الحركات الانفصالية كانت نتاجا طبيعيّا لما حصل قبل الحرب، وهي حلقات متواصلة مع بعضها بعضا، والتفسّخ في النظام السياسي والاجتماعي كان واسع المدى في سائر أركان الدولة بحيث لم تستطع الجامعة رأب كل هذا الصدع الضخم.