الشرق الأوسط في فوضى الاحتمالات

2024.04.30 | 06:04 دمشق

آخر تحديث: 30.04.2024 | 06:04 دمشق

577555555555555
+A
حجم الخط
-A

تمورُ منطقة الشرق الأوسط بالتحولات الجذرية منذ عقدين تقريبًا، وقد بدأت حدتها تظهر مع اندلاع ثورات الربيع العربي، التي جاءت في بعض أوجهها ردًّا على محاولات التوريث في مصر وليبيا واليمن، ثم استمرّت مع تداعيات انهيار الدولة الفعلي فيها إضافة إلى سوريا والسودان ولبنان، وحلول الميليشيات أو الجيوش الأجنبية محلها بوصفها صاحبة التأثير الأول في المشهد.

بات اليمن عقدة منشارٍ بعد طوفان الأقصى في 7 أكتوبر نتيجة الدور الذي تمارسه إيران من خلال ميليشيا الحوثي في تهديد طرق الملاحة البحرية بحجّة نصرة غزّة، ورغم خفوت حدّة "الحرب الأهلية" هناك، إلا أنّ معاناة اليمنيين باتت فوق طاقة الاحتمال، لقد صار اليمن حزينًا بائسًا فريسة الجوع والأمراض والسيطرة الخارجية.

في لبنان أضحى الوضع على كفّ عفريت، ويكاد لا يضبطه تفاهم نظام الحكم في إيران مع الإدارة الديمقراطية بقيادة بايدن إلّا بشقّ الأنفس، ولا يعرف المراقب متى تنفلت الأمور من عقالها وتندلع الحرب الطاحنة هناك، خاصّة أنّ نتنياهو وحكومة الحرب في إسرائيل ترى أنّها فرصة لا بدّ من انتهازها لتأديب المنطقة برمّتها وليس حماس وحزب الله فحسب.

وبعد أن كان لبنان الرسمي ساحةً للتجاذبات الإقليمية بين النظام السوري وإيران من جهة والسعودية من جهة ثانية، وللتدخلات الدولية الغربية الفرنسية والأميركية وتحت الضغط الإسرائيلي، بات اليوم مُستغرقًا بشكل شبه نهائي من قبل حزب الله بيدق نظام إيران الحاكم، ولا أدّل على ذلك من اتفاقيّة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، ومن التسخين المنضبط جزئيًا للحرب القادمة على الأغلب.

أمّا ليبيا فهي تراوح في المكان بانتظار تفاهمات الفاعلين الأساسيين فيها، أي المصريين ومن يدعمهم مقابل الأتراك ومن يصطفّ خلفهم. وبوادر التقسيم الفعلي بين شرق وغرب، والتقسيم القبلي الذي أخذ بالترسّخ أكثر فأكثر، والانقسام الأيديولوجي بين الفرقاء الليبيين من أنصار تيارات قريبة مما يوصف بالإسلام السياسي وأخرى تعارضها وتحاربها بذريعة محاربة التطرف والإرهاب، أصبحت، هذه البوادر، واقعًا مُعاشًا يرخي ظلاله على حاضر البلاد ومستقبلها.

ذهبت الأنظمة العربية إلى خيار التطبيع مع النظام رغم كلّ ما ارتكبه من جرائم وموبقات، تحت مظلّة الواقعية السياسية.

وتبقى سوريا الجرح النازف الذي لا أمل أو رجاء في التئامه قريبًا، وهي حجر عثرة في طريق التحوّل الإقليمي برمّته بعدما وصلت فيها الأمور حدّ التقسيم الفعلي، وبعدما ذهبت الأنظمة العربية إلى خيار التطبيع مع النظام رغم كلّ ما ارتكبه من جرائم وموبقات، تحت مظلّة الواقعية السياسية.

الوجود التركي والأميركي والروسي والإيراني في سوريا، وتضارب المصالح بين هذه الفرقاء جميعها في جزئيات وتوافقها في أخرى، كلّ ذلك يجعل حالة الاستقرار الهشّ على حافة الانهيار والجوع والفوضى هي الأكثر احتمالًا في الاستمرار والتمدد والبقاء.

يُضاف إلى ذلك بالطّبع قصور البنية السياسية المعارضة عن إنتاج منظومة سورية بديلة وقادرة على أخذ زمام المبادرة وتحويل التضحيات الجسام للسوريين والسوريات إلى نتائج سياسية قابلة للحياة.

أمّا في مصر فقد بدأ انهيار التوازن الاجتماعي نتيجة إخفاق سلطات النظام القديم العائد في ضبط الوضع الاقتصادي، ما أدّى إلى تراجعٍ حادٍّ في قيمة الجنيه المصري وتراكم الديون لتصل إلى ما يقرب من 200 مليار دولار أميركي.

يذكّرنا الوضع في القاهرة بما كان عليه أيّام الخديوي إسماعيل، فليس بعيدًا عن التصوّر إمكانية بيع قناة السويس مجددًا لتسديد قروض المدن الإدارية والتفريعات غير اللازمة للقناة وقصور الحاكم الباهظة الثمن والسجون المتعددة التي باتت تنبت كالفطر قي أرض الكنانة أكثر من المشافي والجامعات والمستشفيات.

في تونس، جاءت صناديق الانتخاب برئيسٍ من خارج الطبقة السياسية كردّ فعلٍ مارسه الناخبون على فساد الأحزاب وعدم تحمّلها المسؤولية الوطنية، ونتيجة مباشرة لعدم ارتقاء الأحزاب والقوى السياسية والمدنية، بما فيها الاتحاد العام للشغل، لمستوى الاتفاق على قواعد العملية الديمقراطية، بدل الذهاب إلى المناكفات الحزبية والمناكدات البرلمانية والمصالح الشخصية، ما أدّى إلى انتفاخ هذا الرئيس بأوهام الشرعية الشعبية، فجعله، وهو أستاذ القانون الدستوري، ينقلب على الدستور والديمقراطية التي أتت به إلى سدّة الرئاسة دون أن يكون قد خطر الأمر في باله من قبل، وكأنّ التاريخ يعلّمنا على الدوام ما يمكن أن يصنع الغضب الشعبي سواء في الشوارع أم في صناديق الاقتراع، وإن كانت النتائج تأتي بغير ما يريده الناس غالبًا.

المشهد التونسي ذاهبٌ باتجاهات الديكتاتورية بخطاً متسارعة، وهذه الديكتاتورية لم تصل بعد إلى مرحلة السيطرة على الجيش وتحويل الدولة إلى حكم أجهزة الأمن، لأنها ما تزال بحاجة إلى مظلّة مؤسسات الحكم المدني من قضاء وبرلمان وغيرها، لكنّ نهاية الطريق واضحة للعيان ما لم يحدث نهوض شعبي حقيقي مجددًا كما حصل نهايات عام 2010.

هل يمكن أن يكون لهذه المنطقة مستقبلٌ آخر غير الفوضى، وهل تنجح رؤية 2030 في تغيير وجه المنطقة رغم قفزها على استحقاقات القضيّة الفلسطينية؟

لا شكّ بأنّ السودان المنسي يُطحنُ بين رحى القوى الداخلية المتصارعة والتدخلات الخارجية التي لم تعد تخفى على أحد. لعب الصراع الإيديولوجي دوره في تقسيم السودان نهاية عام 2011، ثم لعبت خمرة السلطة في رأس قادة ميليشيات الدعم السريع التي استحدثها نظام البشير للسيطرة على التمرُّدات القبلية في دارفور وغيرها، فأصبحت تنافس الجيش على الحكم، وهذا ما جعل البلاد نهبة للأطماع الخارجية، ولم تسعف البشير أواخر أيام حكمه محاولة الروس الدخول على الخط، فقد كانت الثورة الشعبية على الأبواب، فتوجّه الدعم الروسي للميليشيات باعتبارها أسهل قيادًا. أسقط الطرفان العسكريان الأكثر قدرة حكومة حمدوك المنتخبة، فالأخيرة كانت الخطوة الأولى على طريق السيادة الشعبية من خلال صناديق الاقتراع، فكانت خطرًا لا يمكن قبوله. بات السودان الآن عُرضة للتشظّي من جديد، ويدفع المواطنون الضريبة الفادحة يوميًا لكل هذا الضياع.

هل يمكن أن يكون لهذه المنطقة مستقبلٌ آخر غير الفوضى، وهل تنجح رؤية 2030 في تغيير وجه المنطقة رغم قفزها على استحقاقات القضيّة الفلسطينية، وهل يمكن للنموذج الصيني المتمثّل في الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي أن ينجح فيها، وهل يمكن تجاهل حقوق الشعوب بالعيش الحر الكريم إلى الأبد؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير الكثير لا يمكن الإجابة عنها الآن، لأنّ تفاعلات العالم الآن أصبحت أعقدَ من أن تُقاس بالكلمات، وإنّ غدًا لناظره قريب.