في قرار مفاجئ تراجعت وزارة التعليم في حكومة الإنقاذ التابعة لـ "هيئة تحرير الشام، المسيطرة على شمال غربي سوريا، عن "المحذوفات" من المنهاج المدرسي للصف الثالث الثانوي (البكالوريا)، ما أثار صدمة لدى الطلاب ولاسيما أنهم في منتصف العام الدراسي.
بعد سيطرة المعارضة على المنطقة في 2015، حذفت أجزاءً من المنهاج الدراسي المعتمد لدى النظام، منها الفقرات المسيئة للثورة السورية وبعض الأجزاء الأخرى تخفيفاً على الطلاب في المنطقة التي تشهد حرباً شبه يومية.
أثار قرار إعادة المحذوفات إلى المناهج الدراسية الخاصة بالصف الثالث الثانوي، في 19 من كانون الأول/ديسمبر الماضي، استهجاناً واستنكاراً من الطلبة والمعلمين على حد سواء، ورغم المطالب بالتراجع عن القرار الأخير والمظاهرات التي خرجت في عدد من المناطق رفضاً له، إلا أن التجاهل والإصرار عليه بقي رد المسؤولين.
استطلع موقع "تلفزيون سوريا" آراء عدد من الطلبة حول الموضوع، منهم من قضى أياماً من البكاء نتيجة "الصدمة"، ومنهم من بدأ بمحاولات الدراسة المكثفة للحاق ما يستطيع قبل الامتحانات، والبعض الآخر أعلن يأسه وتخلى عن حلم متابعة الدراسة الثانوية.
في المقابل، اعتبر بعض المدرسين والمسؤولين شكوى الطلاب "دلالاً" وركوناً إلى الخمول والتساهل من قبل جيل درس على صوت المدافع والغارات الحربية.
محذوفات سياسية وأخرى "من دون أثر علمي"
اعتمدت مديريات التربية والتعليم في منطقة شمال غربي سوريا، على المنهاج المعتمد في مناطق النظام السوري منذ أصبحت تحت سيطرة المعارضة في عام 2015، ولكنها لجأت إلى حذف كل ما يعتبر مسيئاً للثورة ومروجاً لفكر "حزب البعث" وآل الأسد، إضافة لحذف فقرات من الكتب العلمية في سبيل "التخفيف" على الطلبة، الذين لم يأمنوا في مدارسهم أو بيوتهم من الاستهداف والقصف طيلة أعوام الحرب، وهو ما تراجعت عنه بقرارها الأخير.
زياد الجهدو، مدرس مادة الفيزياء في منطقة إدلب، يرى أن المحذوفات السابقة لم تضعف المادة العلمية المقدمة للطلبة.
وقال لموقع تلفزيون سوريا، إن حذف الدروس كان ضرورياً بسبب استهداف المدارس وحركات النزوح المتكررة إلا أن قرار إعادة المحذوفات، والذي تزامن مع قرب انتهاء الفصل الدراسي الأول يعد "كارثة حقيقية".
وانقسمت آراء المدرسين بين من يؤيد قرار إعادة المحذوفات في الوقت الحالي وبين من اعتبره قراراً "مفاجئاً" وخاطئاً" لأنه لا يسمح بفترة كافية لاستدراك ما ينقص من دروس قبل نهاية العام الدراسي.
إخلاص الجربان، معلمة صف لطلاب المرحلتين الأساسية والإعدادية في الدانا بريف إدلب الشمالي، ترى أن القرار سيشكل ضغطاً على الطلاب والمدرسين، وترفض ما سمّته "تقلب" القرارات التعليمية، التي تناور ما بين زيادة المحذوفات وإنقاصها بين عام وآخر.
في المقابل، يرى مدرب التأهيل التربوي، أحمد رحال، بأن الحذف من الأساس كان "خطأً جسيماً" ولا يكون بلا أسباب "قاهرة"، رافضاً الجدل الذي يصاحب الموضوع.
وقال رحال لموقع "تلفزيون سوريا"، إن استياء الأهالي والطلاب من قرار إعادة المحذوفات "غير منطقي"، لأنه يساعد بتحقيق مستوىً أعلى للدرجة العلمية الخاصة بالشهادة الثانوية.
كما أشار أستاذ الكيمياء، في عفرين بريف حلب الشمالي، عماد باطية، إلى أن الأصل في المناهج المدرسية ألا يحذف منها شيء، سوى في الحالات الطارئة، مثل القصف أو التهجير أو انتشار الأوبئة، مثل "كورونا".
وبحسب باطية، طالما كل ما سبق "لم يحدث" خلال العام الدراسي الحالي فإن "الطبيعي ألا يكون هناك محذوفات"، لافتاً إلى أن المنهاج المعتمد في المنطقة، وهو المنهاج السوري القديم، يعتبر "سهلاً" مقارنة مع المنهاج الحالي في مناطق النظام.
بدوره “استقرار" المنطقة هو الدافع لعودة المحذوفات برأي أستاذ الكيمياء عبد المعطي الحكيم، الذي اعتبر القرار "صحيحاً مئة بالمئة"، واستياء المعلمين "غير مبرر"، إذ كان التراجع عن المحذوفات "واضحاً" منذ بداية العام.
لم يستجب المسؤولون في "الحكومة المؤقتة" والمجالس المحلية بريف حلب الشمالي مع محاولات التواصل التي أجراها موقع "تلفزيون سوريا" لإيضاح القرار ومبرراته وسبب تأخره في الصدور خلال العام الدراسي.
ولكن معاون مدير التربية والتعليم في إدلب، محمد عتيق، أجاب بأن المطلوب من المنهاج "غير ثابت ويتم الإعلان عنه في نهاية الفصل الأول، بعد أن يقترحه عدد من الموجهين الاختصاصيين، بحسب نسبة الدوام في المدارس"، أي أن "الاستقرار" أيضاً كان هو المبرر الرئيس.
"استقرار" في زمن الحرب
وفي الوقت الذي يعول فيه الداعمون للقرار على الاستقرار النسبي الذي تشهده المنطقة، يرى الطلاب وهم الجهة المتضررة من القرار المفاجئ ومعهم المدرسون الذين ستضاف أعباء على كاهلهم، أن الحرب ما زالت مستمرة.
في الأسبوع الأول من هذا العام، دانت وكالة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" استهداف الأطفال في سوريا، وأصدرت بياناً بعد مقتل طفلين وإصابة خمسة آخرين في 4 كانون الثاني/يناير الحالي.
وأشار البيان إلى تصاعد القصف الروسي على المنطقة، وأن أكثر من 70% من الانتهاكات الجسيمة المسجلة ضد الأطفال في سوريا خلال العام الماضي كانت في الشمال الغربي.
ويسكن في المنطقة (شمال غربي سوريا) 4.4 مليون شخص، منهم 2.8 مليون نازح، ومنهم 1.7 مليون يسكن في المخيمات.
وفقاً لإحصائيات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، يبلغ عدد المحتاجين للمساعدة 3.5 مليون شخص، بينهم 3.1 مليون شخص بحاجة ملحة للمساعدات الإنسانية.
وفي حين يستمر انتشار فيروس "كورونا" في المنطقة، وهناك أكثر من 93 ألف مصاب حتى بداية شهر كانون الثاني/يناير الحالي، وفقاً لإحصائيات وحدة تنسيق الدعم (ACU)، بينما لا تتجاوز نسبة التلقيح 6% من مجموع السكان، ويترافق ذلك مع حاجات صحية ملحة، تعد من الأكثر أولوية في أنحاء سوريا، وفقاً لتقييم منظمة الصحة العالمية، إذ تعاني البنى التحتية الصحية من الدمار الشديد وإعادة تأهيلها يحتاج لموارد "كبيرة".
وتشير المعطيات السابقة إلى عدم وجود استقرار في المنطقة.
الطلاب قلقون
تحاول مايا الأبرش (19 سنة)، طالبة من إدلب، أن تقدم امتحان "البكالوريا" للمرة الثانية هذا العام، بعد تجربة سابقة بنجاح بسيط تزامنت مع نزوح متكرر لعائلتها، وبعد "صدمة" إعادة المحذوفات، اضطرت للتسجيل بمدرسة خاصة لتتمكن من إكمال المنهاج.
وقالت الطالبة إنها تشعر بالقلق نتيجة هذا القرار.
رند بولاد، بدأت تشعر بـ "الضغط" خلال تجربتها الأولى في تقديم الامتحان، الذي يعد فاصلاً في حياتها الدراسية، منذ أن علمت بقرار التربية.
ومع محاولة علي رستم (18 سنة)، الاستمرار بعمله بالبناء، لمساعدة عائلته المقيمة في مخيم للنازحين، إلا أنه توقف عمله من أجل الدراسة، واصفاً قرار إعادة المحذوفات بأنه مصدر للخوف والاكتئاب بالنسبة للطلبة، ومشيراً إلى أن عدداً من طلاب الشهادة الثانوية هم من أرباب الأسر، أي يصعب عليهم الموازنة بين ساعات العمل وساعات الدراسة.
أما أماني عبد الكريم (25 سنة)، التي انقطعت عن التعليم بسبب ظروف الحرب والنزوح من حلب إلى المناطق المحررة، ومع "استقرارها" في منزل بريف مدينة اعزاز، إلا أن الأوضاع النفسية "السيئة" وسوء الخدمات اللازمة للدراسة، مثل عدم توفر الكهرباء في معظم المناطق، دفعها لاستنكار قرار التربية أيضاً.
وفي هذا السياق، قال عبد الحميد الآغا، مدرس تاريخ، إن قرارات التربية يجب أن تأخذ بالحسبان الظروف التي تمر بها المنطقة، مضيفاً أن الطلاب منهم من لا يحضر ثلث فترة الدوام المدرسية خلال العام، مع عمل الكثير منهم لتأمين المعيشة.
وقال المدرس: "هناك طلاب في الصف التاسع ولكنك تجد لديهم هموم مَن عمره 60 سنة".
وفقاً لتقرير نشرته منظمة "الرؤية العالمية"، في 6 من كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، حول الأوضاع النفسية للأطفال في منطقة شمال غربي سوريا فإن الغالبية يعانون من مشكلات سلوكية نتيجة التعرض المطول للحرب والعنف ما يؤثر على إنتاجيتهم وقدرتهم على التطور، مع مرورهم بآثار "اضطراب ما بعد الصدمة".
تعليم ينقصه التعليم
من جانب آخر، يرى أستاذ اللغة العربية عبد الرزاق الحاج، أن مستوى غالبية الطلاب "ضعيف" في المنطقة، والشهادات التي يحصلون عليها بمنهاج منقوص لا تتعدى كونها "شهادات فخرية"، خاصة مع الاتجاه للامتحانات "المؤتمتة"، التي تقدمها المجالس المحلية في ريف حلب الشمالي، والتي تسمح بالنجاح "السهل"، رافضاً حجة الظروف "الصعبة" للطلبة، قائلاً إنه عاش في مخيم وتمكن أبناؤه من الدراسة ودخول الجامعة وتحقيق معدلات عالية، وبرأيه أن سبب الشكوى هو "نقص الإرادة" لدى الطلاب.
بالنسبة لمعاون مدير التربية في إدلب، محمد ناجي، فإن الطلاب "دائماً يرغبون بالتخفيف والحذف من دون مبرر"، وطريقة تحديد مستوى الطلاب بحسب تعبهم وصبرهم وجهدهم يكون بإعادة تلك المحذوفات.
رغم عمل 63 منظمة على دعم قطاع التعليم في شمال غربي سوريا، لكن المساعدات الخاصة بالتعليم لم تصل سوى لـ 206.5 آلاف مستفيد خلال العام الماضي، من أصل 1.7 مليون شخص بحاجة للمساعدات التعليمية في المنطقة، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة.
ولم تلبِّ سوى 18.3% فقط من احتياجات قطاع التعليم للعام الدراسي الحالي في المنطقة، بحسب تقرير (OCHA)، الشهر الماضي.
ويشكل التعليم الأولوية الثالثة لـ3% فقط من النازحين خلال الحملة العسكرية الأخيرة، أمام الحاجات الإنسانية الأخرى، مثل المساعدات الشتوية والأمن الغذائي والمنح المالية، وفقاً لأحدث تقييمات مبادرة REACH.
انعكس نقص التمويل على البنية التحتية التعليمية، من ترميم المدارس وبناء الجديدة منها وتوفير المواد اللوجستية الضرورية للتعليم، إضافة لتأمين رواتب الكوادر التعليمية، التي تراجع تأهيلها ونقصت أعدادها بشكل واضح، نتيجة ضعف العائد المادي الذي لم يتجاوز في وقت من الأوقات 100 دولار، أما اليوم فيقبض المدرس نحو 280 دولار راتباً شهرياً.
ورغم تسرب 60% من عدد الطلاب بعمر المدرسة، لكن المدارس العامة تعاني من الضغط بعدد الطلاب، إذ قد تصل أعدادهم إلى 70 طالباً في الصف الواحد.
في حين يرى معظم المعلمين الرافضين لقرار إعادة المحذوفات أن تشجيع الطلاب على العودة لمدارسهم هو الواجب، لا تخويفهم أو الضغط عليهم وسط الظروف الحالية، يجد المؤيدون للقرار أن دراسة المنهاج كاملاً تساعد على تقوية الشهادة العلمية، غير الحاصلة على اعتراف عالمي، أو حتى تقدير محلي كافٍ.